الوطن.. و”كمشة” لون
تشرين- وصال سلوم:
الحرب وماورائيات النفس البشرية، وآلية التّأقلم ، والقدرة على استنباط ما هو جميل من بين الخراب والدمار وتحويله لمنتج فكري إبداعي تتنقل همّوم الحياة وأحزانها إلى غايات أسمى وأرقى وذات شأن ترفع من مستوى الأدرينالين في الجسم على الأقل وتفسح المجال أمام قصبات القفص الصدري لاستنشاق ما أمكن من أوكسيد الخلود.
الحرب على سورية وبعض من مخرجاتها الأدبية والثقافية والفنية، كانت فيها لوحة الفنان بديع جحجاح المحرض الرئيس للكتابة عنها، فمن بين كل لوحاته البليغة ذات النص اللامنتهي الذي يجعلك تحكي عوضاً عن الفنان الذي وقع العمل بحروف اسمه وصارت بين لحظة إبداع وسحر لقطة ملكاً لعموم المتلقي..
لوحات جحجاح بكل ما فيها من سحر قصص ألف ليلة وليلة وتصوف لونها وحرفها، ونشوة استحضار معناها، إلّا أنّ لسعة الحرب لامست محبرة لونه ودراويش صالته وذروة الأنا القابعة في حضن الإنسانية فكانت الطبيعة حمراء بريشته، لم أسأله عن المعنى والقصد والغاية من رسم الغابات حمراء بين مجمل السور والقصص الربانية الحاضرة في معرضه، لم أسأله خوفاً، وجبناً.. وكأنني أعلم الإجابة ولا أريد من يذكرني بالحرب، وبأن أحمر الشجر ليس إلّا طوفان دم وحب يولد مرة بعمر الطبيعة ويشعل البشر فتيله بألف قبلة وبارود بندقية.
ولو حاولنا الانغماس أكثر في قوارير اللون السوري وعظمة فنانيه والتخيل حد الدهشة لكانت لوحات الفنان الراحل أيمن الدقر الأقدر على استنباط الكلمة اللونية، كيف استطاع أن يحقق فكرة الفنان الشاعر لدرجة كانت فيها لوحاته تنطق بلغة شعرية فصيحة، وهل السر يكمن في اللونين الأبيض والأسود، ومادام الأسود هو غياب الضوء، فالأبيض هو الموشور الذي يحوي كل درجات ألوان الطيف، أي أن لوحاته كانت عن سابق قصد وحب شاملة وجامعة لكل لون..
ولو تمَّ مجازاً انتخاب لوحة تشكيلية سورية تحاكي الحرب على سورية لكانت لوحة الفنان الدقر التي رسمها سنة 2013 بعنوان ” متى سيعودون ” اللوحة الفائزة وجوباً، لما تحمله من معانٍ واستفهامات وأجوبة شاملة عن مكنونات ومفرزات أوجاع الحرب.
أما عما بعد الحرب، فالحضور سيكون “لمقامات في الحب والحرب” للفنان التشكيلي أنور الرحبي بلا منازع، ليكون معرضه بلوحاته الخمس والعشرين الذي أقامه في صالة ألف ونون بحق التعبير الأنجع لكل مفردات الحرب من غياب وذكريات وعشق ممهور لطبيعة دير الزور الكامنة في خلجات التشكيلي الرحبي، الذي عانى ككل السوريين من أوجاع الحرب ولكنه كان متلقياً استثنائياً عارك أخبار الحرب وشكلها بطريقة لونية جذابة استنبط فيها من كل لون حصيلة لامنتهية من أطياف وظلال الغد القابع في خبايا كل لوحة ممكن أن تكون المتمم لأحلام الوطن الكبير فكانت النتيجة معرض كل ما فيه تحليل اللون لمصلحة فضلى ألّا وهي الحب والمناحي الروحية.
الغوص بين ثنايا الخاصة المشهد التشكيلي السوري يجعلك في حالة مابين السكر والصحو، بين الحزن والفرح وتجليات الأمل،إلّا أنه وبشكل آسر يحسب لفنانينا بأسمائهم الكبيرة أنهم أجمعوا لفكرة واحدة (الوطن والحب)
حتى لو كانت «الشكلانية الآدمية» ثقافة تعتمد على المكنونات الشخصية للفنان الذي أثبت براعته ومحبته للوطن سورية رغم غياب أسماء كثيرة عن الساحة الفنية إلّا أن المكون العام كان على قدر كبير من المسؤولية الوطنية والانتماء للأرض والجذور وللفكرة الإنسانية المتمثلة باعتناق السلام كفضيلة وعبرة فنية.
وخير من تجلى في لوحاته الموقف الحق والرأي الصريح والواضح وضوح بريق أشعة الشمس، كان الفنان “طلال معلا” الذي حمل القلم والريشة وخطّ ظلا سورياً أصيلاً في كل معرض من معارضه، وخير مثال على الحضور الاستثنائي للوحة كان المعرض المقام تحت عنوان (انتهى زمن الصمت) رسالة واضحة وصريحة لرواد معرضه وجمهور الفن التشكيلي، تحمل قبل تبني المواقف الحبَّ الأكبر للوطن والولادة الجديدة للوحاته التي رسم فيها الوجوه كمدخل لشخوص تجسّد القدرة على الفعل، وعدّ فيه الصمت نوعاً من أنواع خيانة الوطن.
وهو الفنان والإنسان، والمبدع الذي يعدُّ من المبدعين الملتزمين القلائل، طالته لوثة الحرب مثله كمثل عامة السوريين، وتأثر وترك الأثر فيها ولفظها بخطوطه ولونه وعدّها نوعاً شنيعاً من أنواع القسوة والوجع على الروح الإنسانية..
وإن كان الفنان برأيه لا يمتلك المفاتيح السحرية لتحليل الواقع وإنارة جوانب منه، إلّا أنه خاض معركة لونية استطاع فيها تدمير فكرة الحرب والاستغناء عنها بلمِّ شمل الإنسانية بمباشرة ولوحات مؤطرة إلّا أنّ فكرتها عامة وشاملة لكل شريف ولكل مثقف لا يقبل الضيم وينكر الحرب والدمار ورمادية الموقف إن كان الوطن هو العنوان في معرض فن تشكيلي.