عبد الله الشاهر.. ورحلة حنين فيّاضة مع “أنسنة المكان”
تشرين- لمى بدران:
ماذا تتذكّرون من ذواتكم المتبقيّة بعد أن تجاوزتم سنينَ طويلة من الذكريات المرتبطة بالأماكن؟ وما الذي يوقظ هذا الحنين الطاغي؟ ربما ستأتيكم رسالة كتلك التي استلمها الشاعر والناقد عبد الله الشاهر من صديق له في المغرب العربي يسأله عن مدى تأثير المكان في حياته الشّخصيّة والأدبيّة، لأنّه يسعى إلى محاولة الرّبط الجدليّ بين الإنسان والمكان من خلال تجميع شهادات لمثقّفين ومبدعين ومفكّرين توجد بينهم روابط الانتماء إلى مكان ما، بحكم الولادة، أو الوفادة، أو العبور، فبدأ هنا الدكتور عبد الله الغرق وسط دوّامة ذكرياته، ونزَفَ قلمه بوحاً عميقاً من الوجدانيّات التي تخترق الزّمن، وتشي لنا عن علاقته بالمكان وفلسفته الخاصّة نحوه منذ الطفولة إلى الصّبا وحتى يومه هذا…
يقاتُلك وجدٌ..
وتهوي بك من قمّة قعرٍ..
عينان حائرتان..
تجوبُ خطاياك الكلمات
ولا غفران..
ابتهل لهما
لعلك في لحظةٍ من صفاء..
تفوز..
بذاكرة المكان!؟
يبدو أن الشاعر بهذا الابتهال المذكور والذي بدأ به كتابه يحوّل الموضوع إلى قضيّة من الممكن أن نفوز بها لو استطعنا أن نُشعل في وجداننا ما كان خامداً هامداً في طيّات النسيان عندنا، لكن بشرط أن نكون في حالة من الصّفاء والشفافية مع أنفسنا، فجميعنا لنا أكواننا الملتصقون بها شئنا أم أبينا، وعندما نريد تذكّرها لا نستطيع أن نراوغ أو نكذب على أنفسنا، وهنا نحن لسنا في مأزق بل في مواجهة مباشرة مع كوامننا وماضينا ولا وعينا أيضاً.
ومن المؤكّد وحسب رأي الكثير من الفلاسفة والأدباء حول العالم أن هناك تعلّقاً نفسياً عند كل البشر ببيوتهم، فالبيت هو الكون الأوّل لجميعنا ومنه تنطلق الذكريات، ويعدّه الشاهر المكان الأكثر صدقاً والتصاقاً بالمعاني الإنسانيّة وفي هذا المكان بالذات تجدك أنت..، ومما كتبه في فصل الطفولة:” في بيتنا كانت رائحة الخبز تشدّني كثيراً… حين تخبز أمّي على التّنور وسط دارنا.. أنا ما زلت أشمُّ رائحة خبر أمّي وإلى يومنا هذا… وكأنّ الذّكريات المحفورة في ذواتنا لا ينضب عطرها من الذّاكرة”، ثم يستعيد تفاصيل جماليّة عن أجواء الطفولة التي من الواضح أنّه لم يعشها تماماً من بيئة فراتيّة شرقيّة. وهنا تضاء فكرة مهمّة وهو أن بعض الذكريات لا تموت ونستطيع أن نستردّها كأنها موجودة في هذه الّلحظة مثل رائحة خبز الأم…
إنّ السّؤال المشروع والمحيّر والذي قد يوازي في جدليّته موضوع “الإنسان والمكان” في هذا الكتاب هو، لماذا نكتب؟ حيث يرى الكاتب أنّه السّؤال الذي سيبقى ماثلاً إلى الأبد في الذّات الإنسانيّة وهو حالة براغماتية وحاجة ملحّة أيضاً ويربطها بالمكان فيكتب: ” إنّ الكتابة تحدّي الفناء… ورغبة البقاء
والحضور الدّائم بين الأحياء..
إذن نكتب لكي نبقى أحياء.. لكي نستمرّ ونخترق زمننا إلى أزمان لاحقة”، ثمّ وفي منتصف الكتاب تقريباً تسقط الذاكرة عنده من علوٍّ لتختلط بأوراق الأهل والعشيرة والأصدقاء ليصل حدّ أن يشتاق للبكاء أحياناً… نعم إنّ الذكريات قد تؤلمنا والحنين قد يحزننا، ويلفت النّظر هنا إلى أنّ شعرنا العربيّ برأيه، كان نواحاً وقتالاً وتذكّراً ومجوناً وماضويّاً لم يجد فيه المضارع مكاناً ولم يلمح فيه معالمَ للمستقبل، إذاً نحن محكومون بذكرياتنا وبأماكن أصبحت ذكرى فقط.
للأنثى مكان بل أماكن تجوب فيها بين بقاع الذكريات ويشبّهها الشاعر في الفصل ما قبل الأخير بالسّيف الدمشقي ويا له من تشبيه! ذلك لأن السّيف الدمشقي من أنقى السّيوف في العالم، كان يُزرع على ضفاف بردى في الخريف مدّة طويلة ليتواصل مع السّماء وهو مغروس في الأرض، فيشحن من برق السّماء، ويندى من رذاذ بردى حينها يخرج لدناً طريّاً قاطعاً لا يُكسر..، وهنا تتحوّل المرأة الأنثى إلى مكان وفضاء وهويّة.
الحنين يُشعل في ذواتنا اشتياقاً كبيراً واستحضاراً للتفاصيل التي غابت عنّا وربما يجعلنا في حسرة أيضاً، فعندما يصل الشاعر إلى مرحلة الحنين التي يتصالح فيها مع الزّمان والمكان يكتب: “أعلم أنّ عباراتي شرسة.. وأنّ أفكاري وعرة..
لكنّ أفكاري تنفرط من عقالها.. لتذهب إلى هناك.. والـ “هناك” أعلم أنّه وحشة فكر ومفازات قهر..
ولكي أهرب من بين حلمي وحقيقتي.. ألوذ بفسحة من الشّرود… أسند رأسي على جدار المكان الذي تداعت ذكرياته.. لأبقى مرفوعاً على أعتاب ذاكرة… وأعلم أنّي أسعى إليك أيّها المكان.”
خمسة فصول للكتاب الصادر عن دار بعل للطباعة والنشر طرح فيها الكاتب أهم القضايا المتعلّقة بأنسنة المكان في كل مراحله، وأقول في النّهاية أنّ العالم اليوم يشهد تطوّرات زمانيّة ومكانيّة مرعبة لا أعتقد أنّها سترسم ذكريات ورديّة عند كلّ البشر، إلّا أنّي أستطيع أن أوافق الفيلسوف الفرنسي “غاستون باشلار” حين شدّد على أنّ الإنسان يعلم غريزيّاً أنّ المكان المرتبط بوحدته مكان خلّاق، لذلك ربما لو حرصنا على هذا المكان ستكون أماكننا أكثر أماناً وذكرياتنا أكثر رسوخاً.