بحدودها الدنيا أو غائبة أحياناً… خبير تأمين يقدم رؤيته حول نقاط القوة والضعف في نظام التأمين الصحي
دمشق- بادية الونوس:
أمام الحاجة الضاغطة إلى خدمات صحية جيدة لجميع المواطنين تقريباً بسبب الوضع الاقتصادي ، وما نتج عن تبعات سنوات الحرب، يبدو التأمين الصحي وتوسيعه ليشمل أكبر عدد ممكن من المستفيدين أحد الحلول لتقديم الخدمات الصحية بشكل أكثر كفاءة، ناهيك بتوفر العديد من العوامل، وهي ما تشكّل نقاط قوة وعوامل ضعف يجب حلّها لبناء نظام التأمين الصحي الملائم.
لكن ما التحديات، وماذا عن التحدّي الأكبر في تأمين الموارد المالية؟ هذه النقاط وغيرها أهم محاور حديث الدكتور هشام الديواني مستشار في التأمين الصحّي لـ”تشرين”.
التحدِّي الرئيسي الذي تواجهه النُظم الصحية يتمثَّل في كيفية تأمين المستوى المناسب من التمويل مع مراعاة البيئة الاقتصادية وتصاعد تكاليف الخدمات الصحية
البداية
عند الحديث عن ملف التأمين الصحي، لا بدّ من الإشارة إلى المراحل والتطورات التي مرّ بها التأمين الصحي.. ووفق الديواني، وهو مستشار في التأمين الصحي ولديه باع طويل في العمل بهذا المجال، في عام 2000 بدأت وزارة الصحة العمل حثيثاً على وضع التأمين الصحي على السكّة الصحيحة بناء على الدراسات الاقتصادية، لتخرج بمشروع قانون عام 2003 رُفع إلى رئاسة مجلس الوزراء و”ما زال ينعم بالدفء في أدراجها”، ووضعت التأمين الصحي في أولويات نتائجها، ليثمر عن ” خريطة طريق للتأمين الصحي في سورية” وما صدر بعدها من قوانين لإحداث هيئة للإشراف على التأمين، حيث صدر القانون (43) لعام 2005 الذي سمح بالترخيص لشركات تأمين في القطاع الخاص، بعد أن كان حكراً على مؤسسة الضمان السورية منذ عام 1961، وهو التاريخ الذي تم فيه التأميم في سورية والذي طال أكثر من 84 شركة ومكتب تأمين خاصاً قبل عام 1961.
معاناة تاريخية
كحال الكثير من القطاعات الإدارية، عانى مشروع التأمين الصحي من صعوبات جمّة، تمثلت في تغيير رأس الهرم ” الوزير” للجهات المعنية به، حيث يؤكد د. الديواني أنه كلما تغيّر وزير يتراجع أو يتقدم المشروع وفقاً لمزاجية الوزير وثقافته لجهة معرفته بمواد الدستور التي تنصّ على كفالة الدولة للمواطن في حال المرض والعجز والشيخوخة، وهي أسس الضمان الاجتماعي للمواطن وكفالة الدولة لصحة العمال .
بعد 51 عاماً
وأضاف: تتالت القرارات وتم تعديل مواد من القوانين النافذة حتى خرج مجلس الوزراء عام 2010 بقرار تتم بموجبه تغطية العاملين في القطاع الإداري بالتأمين الصحي بعد (51) عاماً من اقتطاع التأمينات من رواتب العاملين لمصلحة مؤسسة التأمينات الاجتماعية، التي يجب عليها تقديم التأمين الصحي للعاملين وفقاً لما ورد في المادة (3) من قانون التأمينات الاجتماعية، ولم تقم المؤسسة المعنية بالدفع حتى تاريخه بالرغم من حصولها على (24.5%) من راتب العامل موزّعة بين العامل ورب العمل.
والمفارقة أنه تم إلزام المؤسسة العامة السورية للتأمين، التي لم يكن لديها أدنى فكرة عن التأمين الصحي ولم تمارس أعماله منذ تأسيسها، ولا يتوفر لديها الكادر الفني بالمتابعة وتأمين الخطط حتى تاريخه.. وحسب د. الديواني، من هنا بدأت معاناة جديدة شملت كل الأطراف، وعلى رأسها المؤمّن له ومقدّم الخدمة والشركات والدولة، وذلك بعد قرار مجلس الوزراء بإجراء عقود تأمين صحي للعاملين في القطاع الإداري من دون عوائلهم بعد طلب الوزارة المعنية وبالتنسيق مع وزارة المالية.
نتائج مخيبة للآمال
في العقود الأخيرة التي سبقت عام 2011، كثّفت الحكومة جهودها لإصلاح أنظمتها الصحية، وقامت بتطوير طرق تقديم خدمات الرعاية الصحية الأساسية، وأنظمة جديدة للتأمين الصحي، وألغت مركزية نظم إدارة تقديم الخدمات الصحية الحكومية، إلا أن العديد من هذه الجهود انتهى إلى بعض النتائج المخيبة للآمال، إذ – حسب د. الديواني- بقي المرضى يشكون من سوء الخدمة المقدمة لهم “مؤمّن – غير مؤمن “، والأطباء يشكون من ضعف الرواتب في القطاع الحكومي “قطاع عام “، تقابله على الطرف الآخر الشكوى من التسعيرة في القطاع الخاص، ناهيك بأن القائمين على وضع الموازنات، محلياً ومركزياً، يشكون من نقص الموارد وارتفاع التكاليف في القطاع الصحي” العام”، تقابله شكوى من ضعف قسط التأمين “الخاص”.. إضافة إلى أن تحسين مستوى صحة المواطن والاستجابة لتوقعات المواطنين وضمان الحماية المالية من التكاليف المترتبة على الأمراض، كلها أمور بقيت في حدودها الدنيا أو غائبة أحياناً في القطاع العام، وضعيفة لا ترقى إلى الحدود المعقولة في قطاع التأمين.
التمويل.. التحدّي الأكبر
يتوقف نجاح الإصلاحات على الموارد المخصَّصة، وعلى مدى تطوُّر النظام الصحي العام والخاص، علماً أن التحدِّي الرئيسي الذي تواجهه النُظُم الصحية يتمثَّل-حسب د. الديواني- في كيفية تأمين المستوى المناسب من التمويل مع مراعاة البيئة الاقتصادية وتصاعد تكاليف الخدمات الصحية، وضعف دَوْر الحكومة في مجالَي تمويل الرعاية الصحية وتقديمها.
بعد عام 2011
بعد عام 2011 ونتيجة ما عانى منه السوريون من حرب طويلة وما نتج عنها من تبعات اجتماعية واقتصادية نتيجة أحداث الحرب خلال السنوات الماضية، التي أدت إلى تدهور شديد في الظروف المعيشية ونوعية الحياة ورفاهية المواطنين وتدمير كبير للنظام الصحي، يؤكد د.الديواني أن كل هذه العوامل أدت إلى تدمير البنية التحتية الحيوية في العديد من المناطق وإلى تبعات أثرت سلباً في متخذي القرار من جهة وضع السياسات والخطط، ومن هذه التبعات فقدان المأوى ومصادر الطاقة، تدهور خدمات المياه والصرف الصحي، كذلك تدهور خدمات جمع القمامة، انعدام الأمن الغذائي، الاكتظاظ الشديد في بعض المناطق والعوامل الأمنية، ندرة الأدوية والمستلزمات الطبية، ولجوء الأسر الضعيفة إلى آليات التكيف السلبية…إلخ . يضاف إلى هذه التبعات تعطل الأجهزة بسبب النقص في قطع الغيار، ناهيك بما نتج عنه من دمار لحق بالمستشفيات والمراكز الطبية والعيادات، وأيضاً وفاة عدد كبير من الكوادر الطبية، وهجرة أعداد لا يستهان بها.”، وأضيفت إليها مؤخراً جائحة «كوفيد» عام 2019 وكارثة الزلزال في شباط عام 2023، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الضغط على نظام الرعاية الصحية.
مؤشرات!
يضيف د. الديواني: في نظرة عامة على الاحتياجات الإنسانية لعام 2021 التي أصدرها مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، فإن 86% من الأسر التي شملتها الدراسة والتي طلبت الحصول على خدمات صحية في الأشهر الثلاثة السابقة، دفعت من أموالها الخاصة مقابل الرعاية، في أغلب الأحيان مقابل الأدوية، وخلص تقييم الاحتياجات المتعددة القطاعات، الذي أجراه المكتب المذكور في آب 2021 إلى أن تسعاً من كل عشر أسر أبلغت عن اضطرارها لدفع تكاليف الرعاية الصحية من جيوبها الخاصة وأن التكلفة الحالية للرعاية تعد كبيرة.
واقع الرعاية الصحية
في توصيفه لواقع الرعاية الصحية والتأمين الصحي، بيّن د. الديواني أنه يمكن تلخيصها في عدة نقاط، منها: خدمات الرعاية الصحية في سورية تقع في معظمها على كاهل الدولة، وعدم مشاركة القطاع الخاص بتحمل مسؤولية الرعاية الصحية تجاه العاملين لديه، إضافة إلى صناديق التأمين الصحي للمؤسسات والنقابات ذات موارد مالية محدودة، كما أن عقود التأمين الصحي ذات تجارب سلبية (تأخر في التسديد، تأخر في الموافقات، حسومات غير مبررة على المؤمّنين وعلى مقدّمي الخدمات الطبية، وتطبيق غير علمي لشروط عقود التأمين الصحي..إلخ” وعدم استخدام الترميزات العالمية الخاصة بالأمراض والإجراءات الطبية، سواء من مقدّمي الخدمات الطبية أم من دافع الفاتورة.
ما نقاط القوة؟
في المقابل، لا يمكن إغفال نقاط قوة للتأمين الصحي التي تتمثل في: الحاجة الكبيرة إلى خدمات صحية جيدة لجميع المواطنين السوريين تقريباً بسبب الوضع الاقتصادي السيئ والأزمة السورية، لذلك يمكن أن يقدم التأمين الصحي المجتمعي فرصة فريدة لتقديم الخدمات الصحية بشكل أكثر كفاءة، كما يوجد أساس من القوانين والأنظمة التي يمكن أن تدعم التأمين بشكل عام والتأمين الصحي إلى حد ما، وهناك مؤسسات يمكنها إدارة وتشغيل برامج التأمين الصحي بقدرة معينة ويمكن البناء عليها في تنفيذ برنامج التأمين الصحي المجتمعي.. إضافة إلى ذلك توجد شركات تأمين خاصة وأخرى عامة تتمتع بخبرة جيدة في هذا المجال إلى جانب وكالات التأمين الصحي والمنظمات الأخرى مع توفر خبرة كافية لدى مقدّمي الخدمات الصحية (القطاعين العام والخاص) ما يمكن أن يوفر نقطة انطلاق لـCBHI في المستقبل.
بموازاة ذلك توجد بعض الجهات المانحة (المحلية والوطنية والدولية) على استعداد لتمويل الخدمات الصحية، وتوفر العناصر البشرية المؤهلة.
نقاط ضعف
لكن لا بد من العمل على تجاوز عدد من نقاط الضعف التي تتمثل في: تدني مستوى الإنفاق العام على الصحة الذي يعد أقل مستويات الإنفاق في المنطقة العربية، كما أن انخفاض الكفاءة الاقتصادية على جميع المستويات يسبب هدراً واسعاً للموارد القليلة المتاحة للقطاع وتدني الإنتاجية الفعلية للقوى البشرية، كما أن ضعف الرقابة على القطاع الخاص يشكل سبباً رئيسياً في تدني جودة الخدمات الصحية الحكومية، ناهيك بعدم توفر بيانات دقيقة حول قطاع التأمين والتأمين الصحي ويمكن البناء عليها، وكذلك عدم توفر نظام معلومات طبية موحد على المستوى الوطني، ما قد يؤدي إلى ضعف متابعة أي من خدمات التأمين الصحي في المستقبل، ولا ننسى عدم توفر تغطية صحية شاملة فعالة بسبب الأزمة مع سوء الإدارة لقطاعات التأمين الصحي ذات الصلة، وعدم توفر الملف الطبي للمواطن السوري، تقابل ذلك محدودية الاستفادة من خدمات طب الأسرة كمدخل لجودة الخدمات الصحية والتأمين الصحي، واقتصار تقديم خدمات التأمين الصحي في معظم الأحوال، وخاصة القطاع الإداري، على تقديم خدماتها لفرد واحد فقط من أفراد الأسرة، ما قد يؤدي إلى المزيد من الفساد وسوء استخدام التأمين الصحي.. إضافة إلى محدودية المعرفة ورأس المال البشري والمؤهلات العاملة في مجال التأمين الصحي والثقافة التأمينية، وكذلك اتساع نطاق التحول الوبائي والديموغرافي والاتجاه نحو الأمراض المزمنة، ما يشكل ضغوطاً إضافية، وارتفاع تكلفة الخدمات الصحية والطبية، وخاصة قطاع الأدوية الذي ما زال يعتمد على توزيع الأدوية باسمها التجاري وليس العلمي.. وغيرها الكثير من العوامل التي تؤثر في إنجاز المطلوب.