تغيرات عميقة في أصول الثروات.. العملات المشفّرة تشعل الهواجس من تحول رأس المال إلى أصول فقاعية بدلاً من موارد إنتاجية

دمشق- يسرى المصري:
مع تزايد الأزمات والحروب والكوارث والعقوبات، التي مازلنا نعاني منها على المستوى الاقتصاد المحلي، تطالعنا التقارير الاقتصادية العالمية بأخبار شبه يومية عن تراجع أسعار الصرف للكثير من العملات الدولية، وندقق في الإجراءات المتخذة منذ بداية الأزمات فنجد أن بعض الدول حاولت تجاوز انهيار عملاتها بطريقين إما التحول نحو العملات الإلكترونية كالبيتكوين أو الذهب, وتأتي أهمية الذهب من كونه قادراً على التبادل مع أي عملة أو سلعة لكنه أيضاً عالي المخاطر من حيث الاحتفاظ به أو نقله، والخيار الثاني هو العملات المشفرة التي شهد سوقها رواجاً كبيراً .
فالعملات المشفرة قادرة على التبادل مع أي عملة أو سلعة، ومن جهة ثانية يمكن تداولها من أي مكان في العالم عبر الإنترنت، وبالتالي نجحت هذه العملات في تجاوز الحصار والعقوبات والحروب والأزمات، وتبدو خياراً هاماً للمستثمرين في ظل المخاطر الكبيرة وعدم استقرار الأسعار ووجود الأزمات .
هذه التغيرات الهامة في أصول الثروات أحدثت، حسب صناديق النقد الدولية، ثورة رقمية في أصول الثروات.. لكن ما يثير التساؤل هذا التغير المفاجئ في تقييم العملات المشفرة التي كان ينظر إليها على أنها لا تمثل القيمة الحقيقية والوظائف الأساسية للنقود كمخزن للقيمة.. لأسباب عديدة أبرزها أنها شديدة التقلب في قيمتها .
لكن الحروب والأزمات غيرت الكثير من المفاهيم، حيث لجأ الكثيرون ممن يتعرضون لمخاطر أو عقوبات أو أزمات إلى تحويل أموالهم عبر الهواتف النقالة إلى عملات مشفرة ليتم التعامل بها من أي مكان في العالم، وبذلك ظهرت العملات المشفرة كخيار أقوى وأقل مخاطرة من الذهب.. وتلا ذلك تحول سريع في قناعات المصارف المركزية التي بدأ بعضها كالصين بإصدار عملاتها المشفرة الخاصة بها .
إن التحول الرقمي بات يسيطر على أغلبية مفاصل الحياة، ولعل المستقبل هو من سيظهر مدى صوابية التحول نحو العملات المشفرة وهذا الحماس المفاجئ بالعالم تجاه العملات الرقمية التي تشير إلى تغير كبير في الاقتصاد العالمي.. لقد أظهرت الأشهر الماضية أن نظام العملات المشفرة تجاوز الأنظمة المالية التقليدية التي يمكن حصارها وتجميد حركتها مقابل تحرك وحرية كاملة للعملات الرقمية في الفضاء السيبراني .
إن الحقيقة تكمن في مدى استعداد المستثمرين للاعتماد على العملات المشفرة وانتشارها بين الناس على أنها عملة ذات قيمة وتحقق الوظائف الأساسية المتعارف عليها للنقود .
ولعل الحماس للعملات المشفرة يكون منطقياً، لاسيما في حالات الحصار الاقتصادي والعقوبات، ما بشكل حلاً للخروج من سيطرة وهيمنة الأنظمة المالية المتسلطة، ويتيح المزيد من الانتعاش للاقتصاديات المحاصرة، ما يجعلها العملة التي تتفوق على الذهب من حيث سرعة التبادل والتحويل وشراء كل السلع وبكل العملات من أي مكان في العالم .
هل هي مجدية وقابلة للنجاح؟
هواة العملات المشفرة من جهتهم أشاروا إلى أن موافقة هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية على صناديق «بيتكوين» المتداولة في البورصة هذا الأسبوع كانت بمنزلة إثبات أساس للمفهوم بأن العملات المشفرة قابلة للنجاح وتمثل خطوة كبيرة نحو إدماجها في النظام المالي.. لكن السؤال هل هي مجدية وقابلة للنجاح؟
كان الغرض الرئيس للعملات عبر التاريخ الاقتصادي هو تسهيل الاستهلاك والتعاملات التجارية والاستثمار الرأسمالي، ويحدث التداول والمضاربة والتحوط بعد أن يبدأ استخدام العملة على نطاق واسع ورسوخ الغرض الاقتصادي لمعاملاتها.
لم يتم التداول أو المضاربة بالدولار أو الجنيه أو الين أو العملات العالمية الرئيسة الأخرى قبل استخدامها في المعاملات الاقتصادية، والإثبات المطلوب لمفهومها هو استخدامها الاقتصادي، لكن لا تحقق كل العملات ذلك بالطبع، حيث إن معدلات التضخم في بعض الدول الناشئة مرتفعة للغاية لدرجة أن السكان المحليين يفضلون استخدام العملات الراسخة، مثل الدولار الأميركي، في المعاملات اليومية. واقترح معززو العملات المشفرة أن «بيتكوين» قد تكون خياراً مفضلاً.
وتشتهر السلفادور بمحاولة الربط بين مضاربة بيتكوين والواقع الاقتصادي، لكن النتائج موضع شك حتى الآن، ورغم الادعاءات بأن تدفق الأموال إلى السلفادور باستخدام بيتكوين سيكون أرخص وأسهل من استخدام الدولار الأميركي، إلا أن البنك المركزي السلفادوري يقدر بأن نحو واحد في المئة فقط من التحويلات المستلمة في الأشهر الستة الأولى من 2023 كانت ببيتكوين.

إذا كانت العملات المشفرة عملات بالفعل، وليست بدعاً قابلة للتجميع مثل بطاقات «البيسبول» أو دمى «بيني بيبيز» المحشوة، فستكون أول عملة متداولة في العالم من دون أي غرض اقتصادي. وبعيداً عن الاستخدامات الهادفة الصغيرة نسبياً في بعض الاقتصادات الناشئة، قد يتمكن المرء من دفع ثمن شحنات «الفينتانيل» أو الأسلحة سراً أو إخفاء الثروة، لكنها ليست ذات قيمة تذكر للمعاملات اليومية مثل شراء حاجيات البقالة أو دفع معظم الفواتير.
ورغم الحماس المحيط بإصدار صناديق بيتكوين المتداولة في البورصة، فإن هذا لا يسهل الاستخدام الأوسع لمعاملات العملات المشفرة في الاقتصادات العالمية، حيث سيظل من الصعب شراء كوب من القهوة بها.
مع ذلك، إذا كان الغرض من «بيتكوين» هو مجرد وسيلة للتداول والمضاربة، فقد تكون هذه الصناديق المتداولة في البورصة بالفعل إثباتاً للمفهوم. ومن المحتمل أن تشجع على المشاركة بين المستثمرين الأفراد الذين يشعرون بأن التداول التقليدي في البورصة عبر المؤسسات المالية المعروفة أكثر أماناً من وسائل تداول العملات المشفرة الموجودة سابقاً.
وقد تود المؤسسات المالية الراسخة توخي الحذر، حيث كشف انكماش كل من فقاعتي التكنولوجيا والإسكان عن التزامات قانونية ومالية لم تتوقعها، وانتشار المضاربة على بيتكوين، وأي انكماش لاحق يمكن أن يكشف عن أخطار مماثلة.
إن إتاحة السوق للجميع سمة مشتركة للفقاعات المالية، وكانت فكرة تسوية ساحة اللعب وأنه بإمكان الجميع الآن الوصول إلى أحد الأصول بمنزلة صفارات تجذب المستثمرين للمشاركة في الفقاعات المالية على مر التاريخ، ويبدو أن صناديق بيتكوين المتداولة هي طعم هذه الفقاعة، بل قد تشكل عائقاً أمام مكافحة التضخم.. والفقاعات تضخمية بطبيعتها لأن الاقتصاد يحول رأس المال إلى أصول فقاعية بدلاً من موارد إنتاجية.
بعبارة أبسط، تتدفق الأموال إلى أشياء لا يحتاج إليها الاقتصاد على حساب الأشياء التي يحتاج إليها، وإذا لم يتمكن نقص المعروض من السلع والخدمات الناتج عن ذلك من مواكبة الطلب الكلي، أو لم تتحسن الإنتاجية بشكل كبير، فإن سوء تخصيص رأس المال الناجم عن الفقاعة سيشعل ضغوطاً تضخمية.
ومع تزايد الأدلة على أن العولمة بدأت تتقلص، أصبحت الدول في موقف هش إلى حد ما بسبب عجزها التجاري الضخم، لذلك قد يتوقع المرء أن تتحول تدفقات رأس المال لتحسين البنية التحتية وقاعدة رأس المال غير الملائمتين على الإطلاق في الدولة، كما يمكن أن يؤدي ظهور صناديق بيتكوين المتداولة إلى إبعاد رأس المال أكثر نحو المضاربة غير المنتجة.
يقول بعض الناس: إن «بيتكوين» نسخة رقمية من الذهب، ويبدو أن هذا القول يغفل حقيقة أن هذه المعادن والسلع الثمينة لها استخدامات اقتصادية وليس مجرد وسيلة للمضاربة أو مخزن للقيمة، فالحشوات في فمي أو خاتم زواجي لن تكون مصنوعة من بيتكوين.
وفي الواقع هي تشبه زهور التوليب الرقمية أكثر، وتكرر فقاعة التوليب الهولندية في أواخر القرن الـ16، وأصبح هذا الجنون مستشرياً لدرجة أن بورصة أمستردام بدأت بتداول أبصال التوليب بانتظام إلى جانب الأسهم، وأصبحت صيحة العملات المشفرة الآن متطرفة جداً لدرجة أن البورصات القائمة، بما فيها بورصتا نيويورك وناسداك، ستبدأ بتداول صناديق بيتكوين المتداولة، ومن المحتمل أن يحفز هذا مزيداً من الاهتمام العام، لكن لأسباب خاطئة.
لذلك يجب على أولئك الذين يتطلعون إلى التزاحم عليها أن يتذكروا أن «بيتكوين» والعملات المشفرة الأخرى مازالت تبدو أداة للمضاربة، وليست عملات ذات جدارة اقتصادية مثبتة، كما أن الإجراءات الحديثة ستوسع ببساطة هذه التكهنات لتشمل جمهوراً أوسع، وربما غير مرتاب منها

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
سيتم إطلاقها بالتوازي مع المنصة الوطنية للحماية الاجتماعية.. وزير الاتصالات والتقانة: منصة الدعم النقدي ستكون جاهزة خلال الأشهر الثلاثة القادمة بسبب ارتكاب مخالفات واقتراع الناخبين ذاتهم أكثر من مرة.. القاضي مراد: إعادة الانتخابات في عدد من مراكز حلب وريفها المقداد يعزي البوسعيدي بضحايا حادث إطلاق النار الذي وقع في محافظة مسقط ناقش مذكرة تتضمن توجهات السياسة الاقتصادية للمرحلة المقبلة.. مجلس الوزراء يوافق على إحداث شعبة الانضباط المدرسي ضمن المعاهد الرياضية "ملزمة التعيين" وزارة الدفاع: قواتنا المسلحة تستهدف آليات وعربات للإرهابيين وتدمرها وتقضي على من فيها باتجاه ريف إدلب الجنوبي مشاركة سورية في البطولة العالمية للمناظرات المدرسية بصربيا القاضي مراد: إعادة الانتخابات في عدد من المراكز في درعا وحماة واللاذقية «لوجود مخالفات» غموض مشبوه يشحن الأميركيين بمزيد من الغضب والتشكيك والاتهامات.. هل بات ترامب أقرب إلى البيت الأبيض أم إن الأيام المقبلة سيكون لها قول آخر؟ حملة تموينية لضبط إنتاج الخبز في الحسكة.. المؤسسات المعنية في الحسكة تنتفض بوجه الأفران العامة والخاصة منحة جيولوجية ومسار تصاعدي.. بوادر لانتقال صناعة الأحجار الكريمة من شرق آسيا إلى دول الخليج