آسيا تسحب البساط من تحت الجميع.. طبقتها الوسطى تعيد تشكيل موازين الاقتصاد العالمي

تشرين رصد:

تصب كثير من الأرقام والإحصائيات في صالح القارة الآسيوية ومستقبلها، ويقرأ كثير من الخبراء المشهد الاقتصادي الراهن في آسيا باعتباره لحظة تحول تاريخي مثيرة للإعجاب، خاصة إذا استمرت دول القارة الصفراء في اتباع مسارها الحالي.

بحلول عام 2050 يمكن أن يرتفع دخل الفرد ستة أضعاف ما هو عليه الآن بحيث تعادل القوة الشرائية للمواطنين مستوياتها في أوروبا اليوم، وسيضاعف الآسيويون نصيبهم من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 52 في المائة.

إلا أن الصعود ليس قدرا محتوما، فالطريق إلى الأمام ليس سهلا ولا معبدا، وقد يتطلب أحيانا تغير أنماط النمو الاقتصادي المتبعة، وتبني أشكال تنموية جديدة، والتصدي لمجموعة واسعة من القضايا الاقتصادية المعقدة.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية نمت تدفقات التجارة العالمية إلى مستويات غير مسبوقة، وبلغت ما يقارب 30 تريليون دولار في 2021. وفي العقدين الماضيين كانت القارة الآسيوية مركزا ملحوظا لهذا الانتعاش التجاري العالمي، حيث تضاعف حجم التجارة أربع مرات تقريبا.

وتعد الدول الآسيوية أن التجارة الخارجية أداة حاسمة في تنميتها الاقتصادية، وقد لعبت التجارة دور المحرك الرئيس للتنمية، خاصة في أقطار شرق القارة، حيث وصلت كوريا الجنوبية واليابان إلى وضع الدخل المرتفع من خلال استراتيجيات تنموية قائمة على التصدير، وتمثل الاقتصادات الناشئة في شرق آسيا اليوم 17 في المائة من التجارة العالمية في السلع والخدمات، بينما يبلغ متوسط نسبة التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي 105 في المائة، وتتاجر الاقتصادات الناشئة في شرق آسيا بحصة أعلى من السلع والخدمات التي تنتجها مقارنة بنظيراتها في أمريكا اللاتينية التي يبلغ متوسط التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي 73 في المائة تقريبا، بينما تعد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي النموذج الوحيد الذي يتفوق على دول شرق آسيا في متوسط نسبة التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي حيث تصل إلى 138 في المائة.

في أحدث توقعاته قام صندوق النقد الدولي برفع تقديراته لنمو دول آسيا الناشئة والنامية هذا العام من 4.9 في المائة إلى 5.3 في المائة، أي أكثر من ثلاثة أضعاف من الوتيرة المتوقعة للتوسع في الاقتصاد الأمريكي، وأكثر من سبع مرات أسرع من منطقة اليورو.

حالة القلق وعدم اليقين التي تنتاب الخبراء في الوقت الراهن بشأن مسار الاقتصاد العالمي، لم تمنع من أن تتفق الأغلبية إن لم يكن الجميع على أن آسيا هي المكان الذي يتحقق فيه النمو على الأقل في العقود الثلاثة المقبلة. لكن ما الحيثيات التي يعتمدها الخبراء في قناعتهم بأن القارة الآسيوية تسحب البساط تدريجيا، لكن بمعدلات متسرعة من تحت أقدام الجميع لتتبوأ قمة الهرم الاقتصادي، وتستعيد صولجان الملك الاقتصادي والتجاري الذي كان بحوزتها قبل ثلاثة قرون حتى جاءت الثورة الصناعية الأوروبية واخترع الرجل الأبيض البندقية فساد على من عاداه.

يرى البروفيسور سي. ك. روشي رئيس قسم الاقتصاد الدولي في جامعة شنغهاي سابقا، أن هذا التفاؤل بشأن مستقبل آسيا يعود إلى عاملين.

وقال إن “العامل الأول يتمثل في الأزمة المالية التي اجتاحت مراكز التنمية الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي، التي كان يطلق عليها مجموعة النمو الآسيوية، سمحت لهم بامتلاك خبرة ضخمة في التعامل مع الأزمات المالية، ولذلك خرجت آسيا بقدر محدود من الندوب الاقتصادية خلال جائحة كورونا، وأيضا من تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، العامل الثاني أن الأغلبية العظمى من دول القارة ذات الكثافة السكانية الضخمة تمر بتحول تاريخي يجعلها أقل اعتمادا على صحة الاقتصاد الأمريكي والأوروبي”.

ويضيف “النجاح الاقتصادي الآسيوي يعود أساسا إلى الإدارة الاقتصادية الكفؤة التي عالجت نقاط الضعف والخلل، عن طريق تعزيز احتياطات النقد الأجنبي والسيطرة على التضخم وضمان عدم تعثر الاقتصادات الوطنية نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، أضف لذلك تعزيز التجارة الإقليمية عبر سلسلة من اتفاقيات الشراكة التجارية التي حسنت إمكانات النمو وجذبت الاستثمارات ومثلت حاجز صد للرياح السلبية للعولمة”.

ما يشير إليه البروفيسور سي. ك. روشي بشأن التكامل التجاري الإقليمي في شرق آسيا لعب ولا شك دورا مهما في تعزيز التجارة البينية، ما ساعد على زيادة كبيرة في تجارة السلع الوسيطة بين الاقتصادات الآسيوية الناشئة، بينما ظلت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أسواق التصدير الرئيسة للسلع النهائية.

لكن ما يشير إليه كثير من الخبراء الآن بتحول تاريخي تشهده دول القارة الصفراء عموما وشرقها على وجه التحديد يشير في حقيقته إلى أن مصادر الطلب العالمي آخذة في التغيير، فالقارة التي اعتادت دولها أن تكون مصدر الصادرات من السلع النهائية كالتلفزيونات وأجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة، باتت تعتمد أكثر وأكثر على الطلب المحلي الآخذ في التنامي، مستندة في ذلك إلى النمو السكاني السريع والنمو المتسارع للدخل، هذا النمو في الطلب المحلي، الذي توسع في العقد الماضي بنسبة تقارب 6.5 في المائة يجعل الاقتصادات الآسيوية أقل اعتمادا على أسواق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأكثر اعتمادا على أسواقها الداخلية.

من جهته، يقول  جيمس سان مايلز الباحث في الشؤون الآسيوية “الاقتصادات الآسيوية يمكنها أن تحافظ على زخمها الحالي لمدة 40 عاما قادمة، ولديها القدرة على التكيف مع البيئة الاقتصادية والتكنولوجية العالمية المتغيرة من خلال تعزيز مزاياها النسبية باستمرار، وسيساعد ذلك القارة الصفراء على أن يقفز الناتج المحلي الإجمالي من 17 تريليون دولار 2010 إلى 174 تريليون دولار في منتصف القرن”.

ويضيف “دول شرق وجنوب شرق آسيا تشهد تحولات جذرية في تركيبة السوق الاستهلاكي الداخلية نتيجة النمو الإيجابي في الطبقة المتوسطة، فعلى سبيل المثال ارتفع عدد أفراد الطبقة المتوسطة في شرق آسيا من 834 مليون نسمة في 2016 إلى ما يقرب من 1.1 مليار العام الماضي، وتشير بعض الدراسات إلى أنه إذا كان متوسط الإنفاق اليومي للمستهلك 12 دولارا، فإن القارة تستحوذ على نحو 30 في المائة من المستهلكين في العالم، وفي 2030 واحد من كل ثلاثة أعضاء من الطبقة المتوسطة في العالم سيكون من شرق آسيا”.

وبالفعل فإن بعض المؤسسات الدولية تذكر أن عدد المستهلكين في آسيا – وفقا لمعيار إنفاق 12 دولارا يوميا- سينمو من 560 مليونا في 2000 إلى ثلاثة مليارات أو 70 في المائة من سكان المنطقة في 2030، ويشتري المستهلكون الجدد سلعا آسيوية الصنع، وتؤكد شركة الشحن العالمية مورسك أن التجارة البينية نمت بين الدول الآسيوية بنسبة 50 في المائة بين 2019 و2022، بل الأكثر أهمية الذي يجب أن يسلط عليه الأضواء أكثر أن استراتيجية الاستثمارات العالمية المتجهة للقارة تتغير فبدلا من ضخ الأموال في أقطار القارة من أجل التصنيع للتصدير إلى الخارج، فإن الاستثمار الدولي يتدفق بشكل متزايد نحو القارة من أجل التصنيع والاستهلاك داخل القارة ذاتها، وقد قفزت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 34 مليار دولار عام 1990 إلى 741 مليار دولار 2021.

اليزابيث جروسر الباحثة في المعهد السياسي للمجتمع الآسيوي ترى أن الطبقة المتوسطة المتنامية في آسيا سيتجاوز تأثيرها الاقتصادي وضع القارة الآسيوية في مركز الاقتصاد العالمي، وإنما ستعمل على إعادة تشكيل الاستهلاك العالمي.

وتؤكد  أن الطبقة الوسطى تنمو في آسيا بمعدلات أسرع بكثرة مقارنة بالدول الغربية، والمستهلكين الآسيويين في شرق القارة وغربها وتحديدا في منطقة الخليج العربي بات لهم تأثير متزايد في تشكيل قرارات تطوير المنتجات والخدمات في جميع أنحاء العالم، وبذلك يتحول ميزان الاستهلاك العالمي من الغرب نحو الأسواق الناشئة في القارة الآسيوية، حيث تعطي الشركات الأولوية بشكل متزايد لدخول هذه الأسواق وتلبية الاحتياجات المتنوعة للطبقة الوسطى الآسيوية بدءا من السفر إلى الرفاهية والتعليم والتكنولوجيا والبنية التحتية.

وتضيف “الآن يلاحظ أن التجارة الفاخرة بين القطاعات الرائدة تحاول تركيز الاستثمار بعيدا عن المراكز الأوروبية مثل لندن وباريس وروما نحو شنغهاي والرياض، ودبي فعلى سبيل المثال سيقفز الإنفاق الصيني المحلي على السلع الفاخرة المستهلكة عالميا من 11 في المائة 2019 إلى 28 في المائة 2025”.

يترافق ذلك النمو للطبقة المتوسطة بطبيعة الحال مع نمو مذهل للمناطق الحضرية على امتداد القارة الآسيوية، بما يعنيه ذلك من مشاريع تنموية حديثة خاصة في مجال البنية الأساسية، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد سكان المناطق الحضرية في القارة من 1.6 مليار نسمة إلى ثلاثة مليارات نسمة بحلول منتصف القرن، وستسهم تلك المدن بنحو 80 في المائة من الناتج الاقتصادي، كما أنها ستكون مركز تعليم عالميا قادرا على استقطاب مزيد من القدرات التكنولوجية والابتكارية، وستحدد المدن الآسيوية جودة وكفاءة القدرة التنافسية لآسيا على المدى الطويل ومدى الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

باختصار، يؤدي صعود الطبقة الوسطى الآسيوية وتنامي قدرات المستهلك الآسيوي إلى قلب ميزان النفوذ الاقتصادي الدولي، فالقارة الصفراء ستصبح مع مرور الوقت أقل عرضة للصدمات الاقتصادية الخارجية، وربما نصل بحلول منتصف القرن الحالي إلى وضع ربما يكون العالم فيه في حاجة إلى القارة الآسيوية وأسواقها المنتعشة أكثر من أي وقت مضى في التاريخ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار