جوزيف كونراد وقرينه المثقل بالخطيئة
تشرين- راوية زاهر:
(الشريك الخفي).. رواية، وهي أقرب منها إلى قصة طويلة للكاتب جوزيف كونراد، ترجمها للعربية إسكندر حبش، وصادرة عن دار دلمون للنشروالتوزيع بدمشق مؤخراً.
(الشريك الخفي): عنوان لافت لنصّ روائي يحمل بين طياته بقايا تجربة حياتية وأدبية متفردة لمؤلّف شقّ طريق إبداعه في عباب البحار وعواصف المحيطات.
الشريك الخفي التي يقدم فيها كونراد «بورتريهاً» لرجل يُلقى القبض عليه في اللحظة التي يظهر فيها قرينه أمامه هارباً من جريمة قد ارتكبها على سفينته، كانت قصة تحكي عن تلك الأيام المشتركة بينهما، وتحيط بها السّرية القلقة، ومن ثمّ رحيل هذاالشريك عنه.
وفي تقاطعٍ خفي بين القرين والذنب، غاب شعور الذنب تماماً عن القاتل أوالشريك (ليغات) الفار عن ظهر سفينته بعد قتله ضابط السفينة النزق، كما غاب الشعور ذاته عن قائد السفينة التي لجأ إليها القاتل.
فالقصة تناولت ثيمة القرين البشري الذي يتحكم بشكلٍ خفي بإرادة الآخر لدرجة التماهي.. قضية بقيت على مدار عقود تتربع عرش نتاج كونراد الأدبي، ففي (قلب الظلمات، والعميل السري) لم يستطع كونراد إيجاد حل لمشكلة الإنسان مع قرينه، حيث يحيط بالشخصيتين إبهام كامل، وإنما في (الشريك الخفي) يسمح القبطان لقرينه بالرحيل كي يتوه في الأرض، وبذلك يتخلص منه كي يعود إلى مهمته التي كاد يقضي عليها وعليه هذا الشريك من خلال حدّة التشويش والقلق اللذين مُني بهما أثناء محاولة إخفائه وإنقاذه.
الرجل العاري الذي استقبله القبطان فوق جزيرته الراسية في خليج سيام والذي خبّأه في قمرته وحده العارف بجريمته، ووحده الذي أصرّ على إنقاذه، رأى فيه انعكاساً في ذاته وانعكاساً لضميرٍ متعاطف.
هما شخصيتا القصة الرئيستان.. إذ رأى القبطان في (ليغات) قريناً لابل نسخة طبق الأصل عنه، يقول :(بدأ الأمر في الليل كما لو كنت أواجه تأملات من عمق مرآة معتمة).. فشخصية القبطان بدت تُعاني اغتراباً حتى لحظة ظهور هذا الشريك الغريب، إذ تملكته الريبة من طاقم سفينة لا يعرف عنها شيئاً لتتعمق هذه الغربة من وجود عنصر ضاغط جديد أدخله أتون القلق والخوف والأرق.
وشخصية الهارب اللاجئ، وتماهي القبطان معه بشكلٍ غريب، وقد تعامل القبطان مع قائد سفينة سيفورا بحقد، كحالة توحد وانسجام مع القاتل.. فشخصية قائد سيفورا تُمثّل رمزاً لرجل القانون والسلطة.
استخدم كونراد تقنيات رائعة في الكتابة كالحذف والإضمار والرمز، إذ لا شيء يُقال، فقط عند القراءة تتكشف الخيوط.
فـ«ليغات» يتسلل إلى الباخرة بكامل السرية، ليقضي فيها وقتاً متخفياً بظل القبطان وعباءته، وبعدها يتسلل من السفينة وتبصقه بالسرية ذاتها، وهذه الأحداث الخافية على كل طاقم الجزيرة أوقعت القبطان في مآزق كبيرة.. كان فيها حبس الأنفاس على أوجه، وصل حدّ تلف الأعصاب، لتعيدنا التفاصيل إلى مشاركة القبطان ظله المجرم الهمس والحديث الطويل، هنا حيث التعاطف المطلق، والشعور بالمسؤولية تجاهه على عكس ما كان ينبغي، ليكون الهم الأول له هو تخليصه من ورطته حتى لو رماه وفقده إلى الأبد بعد إيصاله إلى بر أمان اليابسة.
وقد أحالنا كونراد على حدّ زعم المترجم إلى لوحتي الشرائع (سيفورا أوصفورة) إذ كانت في التوراة صفورة هي زوجة سيدنا موسى، فهذه إحالة واضحة إلى قصص التاريخ الدينية في استخدام واضح لتقنية التناص، وقد وجد كونراد رابطاً خفياً بين قصة القرين وهروب النبي موسى عند قتله الرجل اليهودي من بني إسرائيل، ودور زوجته صفورة في إنقاذه، وكذلك قصة النبي يونس مع الحوت.
كونراد قلّل من إحساس الشريك بعقدة الذنب، سواء بقتله الضابط في سفينة سيفورا، أو تعريضه قبطان الباخرة المضيفة للخطر شخصياً أو حتى شعوره بذنب جنوح السفينة في لحظة الهرب الأخيرة وتعريض السفينة برمتها للخطر، وهذا الاندماج والتماهي الأشبه بسحر، والذي سطا به على ربان السفينة، كاد ينذر بنهايات غير محمودة العواقب.