بيوت الشام العتيقة.. معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر!
هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.
إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ, ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر.. وإنما أظلم دارنا.
والذين سكنوا دمشق, وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة, يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون…
بوابة صغيرة من الخشب تنفتح، ويبدأ الإسراء على الأخضر, والأحمر, والليلكي, وتبدأ سيمفونية الضوء والظل والرخام.
شجرة النارنج تحتضن ثمارها, والدالية حامل, والياسمينة ولدت ألف قمر أبيض وعلّقتهم على قضبان النوافذ..وأسراب السنونو لا تصطاف إلّا عندنا..
أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء.. وتنفخه.. وتستمر اللعبة المائية ليلاً ونهاراً.. لا النوافير تتعب.. ولا ماء دمشق ينتهي..
الورد البلدي سجاد أحمر ممدود تحت أقدامك.. والليلكة تمشط شعرها البنفسجي, والشمشير, والخبيزة, والشاب الظريف, والمنثور, والريحان, والأضاليا.. وألوف النباتات الدمشقية التي أتذكر ألوانها ولا أتذكر أسماءها.. لاتزال تتسلق على أصابعي كلما أردت أن أكتب..
القطط الشامية النظيفة الممتلئة صحةً ونضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها ورومانتيكيتها بحرية مطلقة, وحين تعود بعد هجر الحبيب ومعها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها ويطعمها ويكفكف دموعها..
الأدراج الرخامية تصعد.. وتصعد.. على كيفها.. والحمائم تهاجر وترجع على كيفها.. لا أحد يسألها ماذا تفعل؟ والسمك الأحمر يسبح على كيفه.. ولا أحد يسأله إلى أين؟
وعشرون صحيفة فل في صحن الدار هي كل ثروة أمي.
كل زر فلٍّ عندها يساوي صبياً من أولادها.. لذاك كلما غافلناها وسرقنا ولداً من أولادها.. بكت.. وشكتنا إلى الله..