منصور الرحباني.. الأخ المحبّ والموسيقار المجدّد
تشرين- سامر الشغري:
في مساء يوم الثالث عشر من كانون الثاني من سنة 2008، كنت أستمع في عطشٍ رحباني شديد لموال المبدع وديع الصافي «عالبال يا عصفورة النهرين» من اسكتش قصيدة حب واستوقفتني تلك الكلمات الساحرة:
«حفرت خيال الشمس عالمفرق
ورف الحساسين اللي اجا تفرق
وما كنت استهدي عبيتك وين».
ضج في خاطري حينها، حول هوية كاتب هذه الكلمات هل هو عاصي أم منصور، من هذا الذي أخذ معه جو القرية بمفرداتها ليحكي عن شغف المحب بمعرفة منزل حبيبته، لتقطع علي كل تلك التساؤلات والدتي المرحومة عندما دخلت غرفتي لتخبرني أن التلفزيون يذيع خبر وفاة منصور الرحباني.
وقتها بكيت بشدة، وانهمرت دموعي على هذا الضلع الرحباني الذي ظل واقفاً اثنين وعشرين عاماً بعد رحيل عاصي أخيه وحبيبه «ألم يكتب له سألوني الناس عنك يا حبيبي» وتحمّل كل ما قيل عنه بمن فيهم بعض رفاق المرحلة كالموسيقار ملحم بركات أن المدرسة الرحبانية كانت قائمة على عاصي فقط.
دفع منصور ثمن الحفاظ أولاً على سر الأخوين رحباني الأثير بعدم كشف من كاتب وملحن كل أغنية، ثم الإبقاء على جوهر الإبداع في تجربتهما، أن تكون مختلفاً ولا تقلد أحداً، فصنع مسرحيات لا تشبه قط تجربته المشتركة مع أخيه بل حملت بصمته هو.
عاش منصور بيننا بصمت ثم رحل، ومشكلته فقط أنه لم يحب نفسه ولا الحديث عنها، فلم يتكلم كثيراً لوسائل الإعلام وكان ميالاً للعزلة، وترك عن قصد قيادة الفرقة الرحبانية لشقيقه الأكبر أو شيخ القبيلة كما سمّاه، وعندما ظهر ممثلاً في اسكتشات ومسرحيات الأخوين رحباني كان دائماً يُعطى دور الشخص البسيط مثل مخول في مسرحية (بياع الخواتم)، والراعي بشير المعاز في فيلم (بنت الحارس).
ولكن مرض عاصي وإصابته بالجلطة الدماغية في أيلول من سنة 1972 أحدث انقلاباً دراماتيكياً في الأدوار، وغدا منصور رغم تماثل شقيقه للشفاء القائد الفعلي للكتيبة الرحبانية، وحملت أعمالهما بصمته هو، فأخذ أغاني فيروز لرحاب فلسفية وابتعد أكثر عن أجواء الضيعة والزجل مناخ عاصي المفضل، وكذلك المسرحيات نحت إلى غير المعقول والغرائبية كما في (ميس الريم).
ومع آخر عمل قدمه الأخوان رحباني مع فيروز مسرحية (بترا) توقف هذا المثلث المعجزة الذي ضخ في حياتنا كل هذا الجمال، وبعد انفصال سفيرتنا إلى النجوم عن عاصي صار على الأخوين أن يعملا بمفردهما فقدما خلال سبعة أعوام مسرحيتين وسيلاً من الأغاني لنجوم الغناء في لبنان ولاسيما عبر برنامجهما الشهير (ساعة لقلبك).
وعندما مات عاصي في 21 حزيران سنة 1986 غرق منصور في حزنٍ شديد استمر لنهاية عمره، وتوقف عاماً كاملاً عن تقديم شيءٍ، ثم وجد أنه من واجبه مواصلة الرحلة مع قضايا الناس ولكن بأسلوبٍ غير الذي اعتاده الجمهور من الرحابنة، فتفرد على مستوى المنطقة بأسرها بتقديم ما وصفه صديقه الشاعر هنري زغيب بالمسرح الميثولوجي، والواقع أنه مسرح تاريخي ملحمي، فما عدنا نجد حكايات القرية وخلافات الفلاحين على الري والمختار أو الأمير الظالم وقصص العشاق، بل امتدت لقضايا كبرى كملوك الطوائف والمتنبي وسقراط وزنوبيا).
لم تكن مسرحيات منصور سرداً تاريخياً فحسب، بل إنه حمّلها الكثير من المقولات والآراء على لسان أبطالها كما في مسرحية (المتنبي) عندما يورد عبارة على لسان سيف الدولة تقول (هكذا نحن، وهذا هو تاريخنا، نتقاتل في الداخل والعدو على الأبواب). هذا على الصعيد الدرامي أما على الصعيد الموسيقي فقطع منصور شوطاً بعيداً في تحقيق حلمه بأن يكون للموسيقا اليد الطولى للأغنية الرحبانية على عكس عاصي، كما في تلحينه لقصيدة (رثاء خولة) أخت سيف الدولة، والتي وظف فيها بإبداع لامتناه الغناء الأوبرالي في الشعر العربي مع الآلات النفخية والإيقاع الرهيب، فقدم بالحق مغناة عن الموت.
موهبة منصور العالية في كتابة الشعر الفصيح تكشفت للناس في أعوامه الأخيرة عندما وافق بعد إلحاحٍ شديد من أبنائه: مروان وغدي وأسامة وصديقه الشاعر زغيب على طباعة مخطوطاته فنشر ست مجموعات شعرية دفعة واحدة من بينها مجموعة لقصائد مغناة من تأليف الأخوين رحباني.
الحديث عن التجربة الشعرية عند منصور يقودنا للحديث عما أثير بعد وفاته من ارتباطه بتنظيمات سياسية في لبنان معروفة بعلاقاتها مع كيان الاحتلال، لتنضم هذه الأقاويل لحملات تشويه سيرة هذا المبدع، لقد كان منصور عروبياً إلى أبعد حد، ومؤمناً أن لا وجود للعرب وهم ضعفاء مجزّؤون، وهذا تجلى في أعماله وتجلى أكثر في حبه الشديد لدمشق ولسورية، لقد أوصى شقيقه إلياس وبنيه أن يقام له مجلس عزاء في هذه المدينة بعد وفاته، وكتب لها قصيدة من أجمل نصوصه في ديوانه (أنا الغريب الآخر) حملت عنوان (يحدث في دمشق) عن ذلك البطل التاريخي الذي كان في كل عصر يطلع من رحم هذه المدينة ليعيد للأمة عزها وقوتها.
وكان لافتاً أن منصور عاد ولحن لفيروز أغنية واحدة بعد قطيعة استمرت عقدين من الزمن، عندما غنت من كلماته وألحانه على مسرح بعلبك سنة 1998 (آخر مرة غنيتلك)، وكأنها محاكاة لذلك الانقطاع في عرا تلك العلاقة ثم عودتها ثم انقطاعها مجدداً.