أيُّها الإنسان.. عش أولاً ثم تفلسف
تشرين- د.رحيم هادي الشمخي:
هذه المقولة ترسخ الفكرة الخاطئة التي ترى التفلسف فعلاً هامشياً لا يلمس صميم الحياة المعيشية، تتخذه أقلية منعزلة مستريحة مرفهة، لديها من الوقت والجهد والطاقة لأن تلعب بالألفاظ وتتساءل عن المستحيلات، إن الأولوية لابدّ أن توجّه إلى حلّ المشكلات اليومية الملتصقة بحياة الناس، فإذا ما حلّت جميع المشكلات وسمح الوقت فلنتفلسف.
هذه نظرة جزئية وسلبية وقاصرة، فالتفلسف في جوهره هو تشغيل العقل الذي يميزه عن الحيوان، والإنسان لا يستطيع المضي في حياته والتقدم بها من دون أن يشغل عقله، أي من دون أن يتفلسف.
أولاً يجب أن نفرّق بين الفيلسوف والإنسان الذي يتفلسف، الفيلسوف إنسان لا يتفلسف فقط، لكنه جعل من الفلسفة مهمته في الحياة، ووجد في فعل التفلسف ضالته المنشودة، والفيلسوف يحيا من أجل تلك المخاطرة الروحية الكبرى المسماة الفلسفة ليبدع نظرية أو مذهباً يثري به التراث الفلسفي في فهم وتفسير الوجود.
إن دعوة الناس إلى التفلسف ليست بالطبع دعوتهم ليصبحوا فلاسفة، إذاً كيف نتفلسف نحن البشر المحوطين بمشكلات الحياة اليومية والمحاصرين بأعباء الحياة المادية؟. كيف نتفلسف ونحن غير فئة الفلاسفة؟ البداية هي الرغبة المستمرة في إيجاد تفسيرات عظيمة لما يحيط بنا من أشياء وظواهر وقيم وعلاقات، وألّا نكتفي ونقنع بالإجابات الموروثة المعلبة المستهلكة التي تجهض حركة العقل وتقتل بذرة التساؤل.
أنا أتفلسف معناه أنني أستطيع من تجربة ذاتية خاصة وقعت في زمان محدد، ومكان محدد استخلاص معنى عام يهمّ الناس جميعاً في كل زمان ومكان، إن كل تجربة يمر بها الإنسان تحوي عناصر تتجاوز ذاتيتها وخصوصياتها، هذا هو البعد الفلسفي الذي نقصده، ونحن جميعاً نلمسه في أوقات الشدائد عند مواجهة الفشل أو المرض أو الموت، وعند الشدائد والآهات نتساءل عن معنى الحياة وغاية الوجود، وهل الحياة تستحق أن تُعاش رغم ما تمتلئ به من آلام وأحزان وعدم استقرار؟ وقد يتساءل البعض: هل ندعو الإنسان الفقير المظلوم المقهور إلى التفلسف؟ نحن بدورنا نتساءل: هل الفقر أو الظلم أو القهر يحول دون التفلسف؟ إذا كان التفلسف كما أوضحنا هو التساؤل عن أصل الأشياء والخروج من التجربة الخاصة إلى شيء عام، فإن التفلسف متاح للجميع، بل إن الإنسان الفقير أو المظلوم أو المقهور يكون أحوج البشر إلى التفلسف، أي إلى التساؤل، وهكذا نجد أن كلمة لماذا هي الكلمة التي تحرر الإنسان من ثالوث (القيود، الأوهام، المخاوف)، ولقد أكد (كانط) «أننا نتعلم التفلسف من خلال ممارسة التفلسف، بالإصرار على كلمة (لماذا) في كل موقف»، ولقد شبّه (ديكارت) «الإنسان الذي لا يتفلسف أي لا يتساءل (لماذا) بالأعمى».. (لماذا) هي الكلمة التي تمنح البصر، وإذا أبصر الإنسان فعلاً الحقيقة، فلا شيء ولا أحد يمكن أن يكبله.
الناس الآن مشغولون أكثر من أي وقت مضى بالمزيد من المعرفة، والحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والأرقام، يقولون إن هذا العصر هو عصر المعلومات والمعرفة العلمية والتكنولوجية، يزعمون أن حلّ مشكلات الإنسان المعاصرة وتجاوز أزماته المادية والمعنوية مرهون بتوفير أكبر كمٍّ من المعلومات، أتساءل: هل تحلّ لنا المعلومات مشكلة الفقر؟ هل تقضي المعرفة العلمية والتكنولوجية على الظلم الاجتماعي؟ هل تساعدنا الأرقام والبيانات والإحصاءات في زرع الحب والسلام؟ هل تحقق الاكتشافات الحديثة السعادة للبشرية المعذبة التائهة؟ يجري الناس لمعرفة الأشياء الخارجية وهم عاجزون عن معرفة أنفسهم، لقد لخص (سقراط) جوهر التفلسف وغاية الحكمة في مقولته الشهيرة (اعرف نفسك).
من هنا نجد أنه من دون معرفة النفس وما تنطوي عليه من قوة وإرادة، وضعف وتناقض، لا يمكن تحقيق أي معرفة، إذا عرف الإنسان نفسه، وإذا تساءل لماذا في كل موقف، تكون أول خطوة لبناء عالم جديد وإنسان جديد.