في عالم متعدد الأقطاب.. هل يمكن أن يشكل العرب قطباً؟
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
حرب أوكرانيا، التي تكاد تكمل عامها الأول، لم تكن فقط إحدى المحطات البارزة على طريق تشكل عالم متعدد الأقطاب، حسب تصنيف مراكز الدراسات والأبحاث العالمية، بل كانت أكثر وأبعد من ذلك بكثير، لناحية أنها أبرزت بصورة حاسمة جازمة أهمية منطقتنا (وخصوصاً دولها العربية) في السياسات العالمية، أي في عملية تشكيل عالم متعدد الأقطاب. وخلال عام مضى كان العالم يشاهد ويراقب ويرصد زخماً متواصلاً لتحركات قوى كبرى باتجاه منطقتنا، تحركات اقتصادية وسياسية، بهدف استقطاب المنطقة كداعم (وشريك).
هذا التحرك لم يقتصر فقط على روسيا والصين باعتبارهما القوتين الصاعدتين في عالم اليوم، إذ إن الولايات المتحدة الأميركية نفسها، التي تمثل عالم اليوم بقطبيتها الوحيدة، تفعل المثل، وتركز جهودها على المنطقة (والشرق الأوسط ككل) والتي طالما شكلت مرتكزاً رئيسياً في مسألة دوام هيمنتها العالمية، لكن الولايات المتحدة لم تكن تقر بذلك، ولم تكن لتعطي دول المنطقة «شرف» هذه الأهمية، وبما يحقق بعض التوازن في العلاقات بينهما، بل كانت تحاول التعمية على هذه الأهمية والتعامل بفوقية واستعلاء، وتمنن دول المنطقة «خصوصاً العربية التي تتحالف معها» بأن لها الفضل في بقائها وبقاء حكامها، فيما تهدد الدول الأخرى بالحروب والحصارات الاقتصادية في حال لم تخضع او لم تسعَ في ركب تنفيذ الأجندات والمطامع الأميركية في المنطقة.
وللأسف فإن هذه التعمية الأميركية نجحت لعقود، ولم تسقط إلا مع اشتعال «الربيع العربي» وبروز ما سُمي بـ«التخلي الأميركي» عن الحلفاء التقليديين والتاريخيين في المنطقة.. وكان من شأن من لم يسقط من هؤلاء بسياسات التخلي الأميركية أن أعاد حساباته جذرياً ليعمل على ضبط بوصلته باتجاه قوى وتكتلات أخرى إلى جانب الولايات المتحدة بداية، وربما بعيداً عنها لاحقاً.
وبقدر ما أعطت حرب أوكرانيا زخماً كبيراً في سياق التطورات العالمية باتجاه عالم متعدد الأقطاب، بقدر ما أفرزت بأحداثها الجانبية «ونقصد هنا بشكل خاص ما رافقها من أزمة طاقة وعقوبات على روسيا».. بقدر ما أفرزت أهمية كبيرة للمنطقة، خصوصاً دولها النفطية، وبأنه لا بد من استقطابها، لتعزيز مكانة هذه القوة أو تلك، أو هذا التكتل أو ذلك.. حتى بالنسبة للدول غير النفطية، هناك الأهمية الجيوسياسية، أي الموقع والتموضع، هذا ونحن لم نتحدث بعد عن أن المنطقة برمتها قابعة على احتياطيات هائلة من النفط والغاز غير المكتشف أو غير المستثمر.. ما يضاعف من قوتها وأهميتها ومركزيتها في عالم متعدد الأقطاب.
الآن.. السؤال لم يعد يتمحور حول ما إذا كان لدى العرب مصلحة في عالم متعدد الأقطاب، هم على الأكيد لديهم مصلحة كبرى فيه باعتبار أنهم كانوا من ضمن المتضررين الرئيسيين، وبصورة مدمرة، من عالم القطب الواحد. السؤال اليوم يتمحور حول ما إذا كان العرب قادرين «أو يريدون» أن يكون قطباً عالمياً، أم أنهم سيرضون أن يكونوا من الدائرين في فلكه أو التابعين لأحد أقطابه، والسؤال الموازي تماماً، هل يمتلك العرب فعلاً مقومات أن يكونوا قطباً عالمياً؟ وما هي سبل تحقيق ذلك؟ وما الذي يتوجب فعله؟ وما هي عوامل الفشل؟
أولاً: نعود إلى حرب أوكرانيا، للقول إنها لم تظهر فقط أهمية المنطقة «ودولها العربية خصوصاً النفطية منها» بل أظهرت أن هذه الدول قادرة على توسيع خياراتها وسياساتها وبناء علاقات وتحالفات خارج المجال الأميركي/الغربي، وأنها فعلياً سعت إلى ذلك وحققت نجاحات، ونحن هنا نتحدث بشكل خاص عن الدول العربية النفطية التي بدأت مسار الانفتاح على روسيا والصين (بداية) تجارياً وعسكرياً، وخاصة أن هاتين الدولتين تبنيان علاقات وتحالفات وفق مبدأ المصالح والمنافع المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول بعكس الولايات المتحدة الأميركية، وهي بذلك، أي الدول النفطية العربية، تحذو حذو دول أخرى في المنطقة وجدت في روسيا والصين حليفيين وثيقين لمواجهة الغطرسة الأميركية ومخططاتها الاستعمارية في المنطقة العربية.
لنورد هنا على سبيل المثال لا الحصر، اصطفاف «أوبك+» والسعودية على رأسها مع روسيا بخصوص قرارات خفض إنتاج النفط أو المحافظة على مستوياته (ورفض زيادة الإنتاج بناء على طلب أميركي) وكان هذا أمراً مهماً جداً بالنسبة لروسيا بمواجهة حرب العقوبات الأميركية-الغربية على خلفية حرب أوكرانيا، فيما كان رد فعل واشنطن غاية في الغضب والحدة متهمة السعودية و«أوبك+» بالتحالف مع روسيا، وفي الحقيقة كانت هذه رسالة قوية وقاسية جداً للولايات المتحدة ممن يُعد «أهم شريك» لها في المنطقة.
ثانياً: الحديث عن التحول الكبير في السياسات الخارجية للدول العربية، بدأ يؤرق فعلياً الولايات المتحدة التي تنشغل معاهدها ومراكز أبحاثها في تقديم الدراسات والطروحات حوله، مجلة «فورين أفيرز» الأميركية التابعة للجيش الأميركي تحدثت في مقال لها منتصف كانون الأول الماضي عن هذه المسألة تحت عنوان «الشرق الأوسط في عصر متعدد الأقطاب.. لماذا يغازل حلفاء أميركا روسيا والصين؟» تحدثت فيه عن التحول الجديد في الشرق الأوسط وخاصة بعد زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ للسعودية والقمم الثلاث التي عقدها هناك، معتبرة أنه على الولايات المتحدة التخلي عن سياساتها «النرجسية الاستراتيجية» التي تجبر حلفاءها على الاصطفاف في مربعها دائماً.
وتقول «فورين أفيرز»: الصين هي أكبر شريك اقتصادي للسعودية، فيما الولايات المتحدة أكبر شريك أمني لها، وبالتالي فإن الاضطرار إلى اختيار علاقة واحدة، أو تقليص واحدة بشكل كبير، سيكون مكلفاُ للسعودية، لذا تسعى السعودية مثل دول عديدة للحفاظ على العلاقتين على مبدأ تعدد الانحيازات (عالم متعدد الأقطاب.. عالم متعدد الانحيازات) وهذا المبدأ يحميها من التعرض للعقوبات الأميركية-الغربية، ويجعلها أفضل في التعامل مع السياسات الضبابية للولايات المتحدة.. لكن سياسة تعدد الانحيازات لن تكون مفيدة على المدى الطويل. في النهاية على حلفاء الولايات المتحدة أن يختاروا، إما الولايات المتحدة وإما خصومها.. وعلى الولايات المتحدة أن تبتعد عن سياسة «من ليس معنا فهو ضدنا» وأن تسعى إلى زيادة ترغيب الشركاء الحاليين والمحتملين بفرص تدفعهم للاصطفاف معها حتى لو كانوا منخرطين في الوقت نفسه مع قوى أخرى، لا بد أن تعمل السياسة الأميركية وفق مبدأ: مع من ستكون الولايات المتحدة ومن سيكون معهما في هذا الملف أو ذلك، عندما يكون الأمر مهماً؟.. واذا كانت الولايات المتحدة تبني سياساتها الخارجية وفق ما يقتضيه أمنها القومي ومصالحها الخاصة، فمن الطبيعي أن تفعل الدول العربية المثل.
ثالثاً: على نطاق واسع، اعتبرت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية، في 7 كانون الأول الماضي، والقمم التي عقدها هناك، والاتفاقيات التي وقعها، علامة فارقة في مسار الاصطفافات والتحالفات نحو عالم متعدد الأقطاب، فالصين الطامحة للتربع على عرش أكبر اقتصاد في العالم بحاجة إلى شراكة استراتيجية مع الدول العربية، التي تتموضع على أهم طرق ومعابر التجارة العالمية بين الشرق الأقصى وأوروبا.. هذا عدا عن غناها بموارد واحتياطيات الطاقة التي لا غنى عنها للمارد الصيني لتحريك عجلة اقتصاده الضخم والهيمنة على التجارة العالمية وبما يظهر أهمية الدول العربية لتشكيل عالم متعدد الأقطاب. طبعاً المنفعة متبادلة، فالدول العربية بحاجة أيضاً للتكنولوجيا الصينية واستثماراتها وتنويع مصادر دخلها بتنويع التعاملات التجارية الخارجية.
رابعاً، العالم العربي بما يمثله من ثقل بشري وموقع استراتيجي وموارد طاقوية ومعدنية، يعد ضمن أولويات كل القوى الصاعدة حالياً، وليس فقط روسيا والصين.. لا شك أن وجود توازن في العلاقات الدولية يمنح الدول العربية وشعوبها مكانة وثقل في تلك العلاقات، وبما يخدم قضاياها. وحتى لو اختارت الانحياز لأحد الأقطاب الدولية، فهذا بدوره سينعكس إيجابياً أيضاً وبما يحقق التوازن دولياً لهذه القضايا، وبالتالي فإن أكثر ما يحتاجه العرب اليوم هو التوحد أو التكتل، فهذا أنسب وقت قبل فوات الأوان، وترك خلافاتهم وأزماتهم جانباً.. ليفعلوا كما فعلت روسيا والصين والهند عندما وحدوا مصالحهم وأسسوا تكتلاً خاصاً بهم (مجموعة بريكس)، حيث تسعى أكثر من دولة عربية اليوم للانضمام إليها.. أو ليعيدوا تشكيل منظماتهم المشتركة، وعلى رأسها الجامعة العربية، على أسس أقوى وأكثر تأثيراً وبما يُتيح لهم هامشاً أكبر للمناورة والتفاوض واقتناص الفرص، وليكونوا فاعلين ومؤثرين في النظام العالمي الجديد، لأنه من الحتمي والقطعي أن أي دولة عربية لا تستطيع أن تحقق ذلك بصورة منفردة.
أكاديمي وكاتب عراقي