في أربعاء الكاتب السوري صقر عليشي القادمُ من أعلى مرتفعٍ

تشرين- علي الراعي:

«جئتُ إلى الدنيا‌‏

وغيرُ هذه الأشعار‌‏

ليس في يدي‌‏؛

من المُعيب أن يمرّ المرءُ‌‏

ليس في يديه شيء..»

أظنُّ أن صقر عليشي، بهذه الو‌‏مضة السريعة التي عنونها بـ«زائر»؛ كثف من خلالها رسالته في هذه الحياة، فقد ولد ليكون شاعراً فحسب، فقد أخلص للقصيدة حتى إنه لم يكتب غيرها، بل وكانت مختلف شواغله الأخرى تذهبُ في سبيل القصيدة العالية.

ومناسبة هذا التقديم؛ تكريم الشاعر صقر عليشي في الأمس في ندوة (أربعاء الكاتب السوري)، التي يُديرها الإعلامي مُلهم الصالح، وإشراف الدكتور إبراهيم زعرور رئيس فرع دمشق لاتحاد الكتّاب العرب.

صقر عليشي الذي يُعدّ من أهم رموز ديوان الشعر السوري خلال ثمانينيات القرن الماضي، أمست قصيدته اليوم تُشكّلُ تياراً لا يُستهان في مساحته، قصيدة لخص ملامحها الدكتور عاطف البطرس بعدد من الأساليب منها: براعة عليشي في السخرية والهزل، وربما كان من أهم المساهمين في شعر البداهة والفطنة العربية.. سخرية ليس من مهمتها الهجاء أو الإضحاك، وإنما المتعة القائمة على المفارقة.. ثم كان اعتماده على تشكيل المشهد في القصيدة، وليس الصورة، وهو ما أكسب نصه ملمح الحكاية، و جعل قصيدته تتموضع بين ظاهرتين شعريتين: تجربة رياض الصالح الحسين، وتجربة نزار قباني كفرادة في الساحة الشعرية السورية.. تلك العفوية والبداهة التي أنزلت القصيدة من برجها النخبوي لتبني مجدها من مفردات الحياة اليومية بدل النوم في جزالة القواميس الباردة.. لكن ليست أي مفردات، بل تلك التي تحملُ مخزوناً من الدلالات والتأويلات، وهي التي يُعتمدُ عليها من خلال تقنية (الانزياح).

ويذكر الدكتور البطرس أنّ صقر عليشي الذي قدم دمشق من أعلى منطقة في سهل الغاب (عين الكروم)، حيث كلّ شيءٍ مرتفع الجباه والجبال ونهود الصبايا، قدم من دون عُقد مزهواً بريفيته ومتصالحاً مع مختلف قيم المدينة، متسمكاً بتراثه الريفي وذاكرة طفلية مثلت له مؤونةً لحياةٍ شعرية كاملة وناضجة بمختلف «عناقيد الحكمة».. ومن ملامح القصيدة عند صقر عليشي أيضاً؛ النزعة السردية، والسيرية كذلك، بمعنى يستطيع القارئ أن يتعرف على حياة الشاعر من خلال نصه الشعري.. كما استطاع أن يُحرر الشعر من حمولاتٍ لا طاقة للقصيدة بها، وذلك باتجاه الشعر المفعم بالمتع الجمالية التي تحملُ المعرفة، وهو من خلال ذلك استطاع أيضاً أن يتجاوز (الراسخ) في الشعر العربي من دون أن يُشكّل قطيعة مع حركة الشعر العربية الطويلة..

«لا رغبة عندي في تغيير العالم،

أو حتى نصف العالم..

لا وقت لديّ لهذا الأمر

لن أترك أفكاري تؤذي

حتى حجراً..

لن أتركها تحرف مليمتراً

مجرى النهر..

لكن

لا يمنع هذا من أني

سأغيّر ذاتي الآن

بزجاجة خمر..»

هنا يُمكن أن نتحدث عن الشاعر الفيلسوف ووجهة نظره في هذه الدنيا، الشاعر الذي يعمل لأن يُخلصها من عُقدها بكلِّ هذه البساطة، ومُحرراً الشعر من حمولات الإيديولوجيا والقضايا الكبرى أو ما سُميّت كذلك، فقد اكتفى بالتعبير عنها بهذه السهولة والبساطة الوجودية، ومن دون أن يغفلَ عنها.. من هنا استطاع صقر عليشي التميّز، وذلك بمختلف هذه الإضافات التي أهداها للقصيدة العربية، تلك القصيدة التي كتبها بكلِّ أشكالها أيضاً: العمودية، والتفعيلة، وقصيدة النثر..

«سنكتبُ شعراً

لكي يتمرأى القمر..

سنكتبُ شعراً

لكي لا يضيقُ على الطيرِ أفقٌ،

لكي تستمدَّ السماواتُ زرقتها

من جمال الصور..

سنكتبُ شعراً

ليرضى النزول على الأرض

هذا المطر..»

بهذه البساطة، يُحدد صقر عليشي شواغله الشعرية، وغاياته من القصيدة ومهماتها التي كانت إنسانية صرفاً، وجمالية خالصة، وهو الذي يقول أتيتُ من بيئة (تُمجّد) الشعر، حتى إنّ كل مافي القرية من معطيات، كانت تحضني على أن أصيرَ شاعراً بما فيها الطبيعة، ويضيف: ثم كان ثمة شعراء قرأتُ بنهمٍ كلَّ ما قالوه: بدوي الجبل، نزار قباني، محمود درويش، بابلو نيرودا، بوشكين حتى كنت أجيب من يسألني بمن تأثرت بالقول: «لم ينجُ أحدٌ من شرّي»، وربما كان هذا واحدا مما جعل تجربته مختلفة.

بينما كان الباحث عطية مسوح يُفتش عن (البؤر الجمالية) في قصائد صقر عليشي، تلك كانت وجهة نظره النقدية التي طبقها في عشرات النصوص الشعرية، تلك البؤرة التي تشعُّ الجمالَ في النص كله، تلك (البؤر) التي تنتشر في نصوص عليشي ولاسيما في الخواتيم، وهو ما أشار إليه مسوح من خلال محاورة الشاعر مع القصيدة، وهذه العلاقة مع نصه الشعري للوصول إلى القصيدة المختلفة، ومن ثمّ كان صوته المميز في ديوان الشعر العربي بهذه البساطة النبيلة على ما يصفها الشاعر جمال الجيش، فهو المتنوع والغني في بساطته المنتصر لكلِّ جميلٍ في هذه الحياة، وهو الذي وفّر للشاعر لأن يكتب قصيدة يظنُّ أن كل من يقرؤها شريك فيها على حد وصف الشاعر محمد عيسى.

«أنا ولدٌ صالحٌ يا أبي

أنا ولدٌ صالحٌ

وحياة الإمام

لن تُطأطئ رأسكَ قُدّام ربّك بي..

(….)

ينصّ اخضرارُ الشجر

على لون روحي،

ويمتدُّ ضوءُ القمر

على ضفتي مذهبي..

وراءَ الحقيقة أطلقتُ عُمري

وراء الحقيقة أطلقتُ نسري

وراء الحقيقة أطلقتُ شِعري

إلى عالمٍ غيهب..».

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
سورية تدين اتهام الاحتلال لـ«أونروا» بالإرهاب وتؤكد أنه يأتي ضمن محاولاته لإنهاء دورها وافق على تأمين 5 آلاف طن من بذار البطاطا.. مجلس الوزراء يعتمد الإطار الوطني الناظم لتبسيط إجراءات الخدمات العامة 1092طالباً بالثانوية العامة استفادوا من طلبات الاعتراض على نتائجهم قيمتها ١٥٠ مليون ليرة.. أين ذهبت مولدة كهرباء بلدة «كفربهم».. ولماذا وضعت طي الكتمان رغم تحويل ملفها إلى الرقابة الداخلية؟ الديمقراطيون الأميركيون يسابقون الزمن لتجنب الفوضى.. الطريق لايزال وعراً وهاريس أفضل الحلول المُرّة.. كل السيناريوهات واردة ودعم «إسرائيل» الثابت الوحيد هل هي مصادفة أم أعمال مخطط لها بدقة «عائلة سيمبسون».. توقع مثير للجدل بشأن مستقبل هاريس تطوير روبوتات لإيصال الأدوية عبر التسلل إلى دفاعات الجسم المكتبة الأهلية في قرية الجروية.. منارة ثقافية في ريف طرطوس بمبادرة أهلية الأسئلة تدور.. بين الدعم السلعي والدعم النقدي هل تفقد زراعة القمح الإستراتيجية مكانتها؟ نقص «اليود» في الجسم ينطوي على مخاطر كبيرة