فلسطين.. ذاكرة المقاومات

رائعة ولا أروع منها، إنها وقفة وفاء للقضية الأولى في الميثاق العربي التّحرّري: فلسطين، ذاكرة المقاومات، والكاتب هذه المرة هو الشاعر المغربي محمد بنّيس، من الرافضين لبعض الجوائز العربية تضامناً مع الشعب الفلسطيني، آثر الأستاذ بنيس أن يستذكر ما طاب من أنين مرحلة الكفاح والتضامن؛ فلسطين مدرسة دلفنا من خلالها للسياسة ومفهوم الكفاح، والإهداء لمفكّك الصهيونية والوعي الشّقي، عبد الكبير الخطيبي صاحب النقد المزدوج.
في رائعة بنّيس الجامعة لبوح الشاعر وومضات من رعيل النكبة والنكسة، نقف على جُماع القول: ” بودّي لو أخطّ كلمة واحدة – فلسطين- في كتاب أوراقه لا نهاية لها، بودي لو أستمر في كتابتها يوماً بعد يوم، ثم يستأنف كتابتها أحد ممن سيأتون من بعدي، ولا تتوقف الكتابة جيلاً بعد جيل(…) كلمة تتكرر إلى ما لا نهاية، فلسطين، بيد أنها تتبدّل من لغة إلى لغات…”.
جاءت الكلمات في سياق، جُعل منها في نظر الشاعر شطحة أو واردٌ، في زمن باتت فيه فلسطين معزولة أكثر مما كانت أمام هذا الجبروت الصهيو-أمريكي.
يفكك ويحلل الشاعر بنيس قصة الرغبة في نشوء دولة قومية لليهود، استغلالاً لإنسية القرن الثامن عشر، من موشي هيس مروراً بينسكر وانتهاء بهرتزل، مذكراً بصور الاضطهاد وصور التحدّي الذي بلغ ذروته عند صفقة القرن.
ضدّاً على كلّ ذلك، يقول الشاعر بنيس: ” أود لو أخطّ كلمة-فلسطين- في كتاب أوراقه لا نهاية لها، يظل في متناول كل يدّ يريد صاحبها لاسم فلسطين أن يكون في مكانه، ويكون الفلسطينيون أهل هذا المكان، أتجنب البحث عن حجة منطقية لما أودّ القيام به، قوة الشطحة أرسخ من أي حجة، لأنّها علامة على مقاومة تتبع مسارها. كذلك كنتُ وكذلك أكون”.
حسنا، حين اهتدى الشاعر إلى أنّ فلسطين لا تحتاج- تعريفاً ولا حكاية- لحجة منطقية أو تَمَوْقُل، بل هي شطح ملؤه الإحساس المتدفق كالماء الذي يجد طريقه بحدس الطبيعة، الشيء المُحس لا يعرّف، فكيف تعرّف فلسطين؟
من فلسطين يتهجّى ذلك الجيل حروف السياسة ومعنى التضامن، والشاعر يبوح بأنّ فلسطين كانت هي مصدر وعيه السياسي، بل يعتبر أن الحرب الأهلية اللبنانية قرّبته أكثر من وعي أعمق بالمأساة الفلسطينية.
في هذا العمل الذي كان من المفترض أن يكون استجابة من بنيس لوعد قطعه لرفاقه الفلسطينيين، أن يجمع ما كتبه عن فلسطين في عمل واحد، لكن إعلان صفقة القرن جعله يستعجل الأمر ويخلّ بالوعد تاركاً ما كان يشتغل عليه:” لا يفيد الوفاء بالوعد أنني استعجلت إنجاز الكتاب، بل إن الوفاء بالوعد كان حافزاً على قراءة تأملية نقدية لمجمل كتاباتي في الموضوع”.
يؤكد الكاتب أن إعلان صفقة القرن لن يزيل اسم فلسطين، ذلك لسبب بسيط، هو أن الشعب الفلسطيني موجود، وهو كذلك لن يختفي.
شذرات هنا مهمّة من فلاسفة الغرب، وجب تحيين نصوصها، في هذا المنعطف، إنهم يكررون الخطأ، وهم في هذا الحرص العبثي لتكريس أمر الواقع واهمون، ليس هناك واقع غير أن هناك شعباً يوجد على أرض، وهذه الأرض تنبت سنابل من القمح وأشجاراً من الزيتون والبرتقال وتنبت في كل موسم شوقاً لا يُضاهى، يتدفّق حنيناً للهوية التي يحرسها المزارع وحكايات الجدّات، وباتت كغريزة تبعث على الحياة، ولا بدّ من الوقوف عند تلك الشذرات مما أورده الشاعر بنيس من آراء فلاسفة الغرب، وهو على درب عبد الكبير الخطيبي في تفكيكه الوعي الشّقي.

يجيب سيغموند فرويد رائد التحليل النفسي على الرسالة التي بعثها حايم كوفلر، من مؤسسة إعادة توطين اليهود في فلسطين، رسالة يحث فيها فرويد للانضمام إلى دعم المشروع الصهيوني في فلسطين، والإمضاء على عريضة إدانة أحداث ثورة البراق عام 1929، يجيب فرويد :” لا يمكنني أن أفعل ما ترغبون”، كان فرويد الذي أبدى تعاطفه آنذاك، أكثر واقعية حين قال: ” لا أعتقد أن فلسطين يمكن أبداً أن تصبح دولة يهودية”.. أعتقد لو أنصت دعاة المشروع الصهيوني لفرويد آنذاك، لتجنبوا الكثير من العبثية التاريخية، فلقد حذرهم من الإقدام على ذلك، بل لقد استهجن كل تلك التعللات بقوله:” وأعترف أيضاً، بكل أسف، أن تعصب مواطنينا غير الواقعي يتحمل جانباً من المسؤولية في إثارة ريبة العرب، لا يمكنني أن أحس بأدنى تعاطف مع أي تأويل سيئ للتدين، يجعل قطعة من سور هيرود(يقصد حائط البراق) ذخيرة قومية، ويتحدى- بسببها- مشاعر سكان البلد”. في شذرة أخرى من اختيارات الشاعر بنيس تحت عنوان: وجهٌ/ضوء، عبارة لعبد الله العروي من “العرب والفكر التاريخي” وأخرى من “خواطر الصباح”، نقف على حقيقة أنّ الحق التاريخي هنا يواجه تلك المفارقة، بين حقّ مزعوم وحقّ ثابت للفلسطينيين، بتعبير العروي: ” عندما نقول إن اليهود يعتمدون على “حق “تاريخي بعيد ومتقطع، في حين أن حق الفلسطينيين هو حق الملكية والتصرف المتصل، فيفوق الثاني شرعاً ومنطقاً ، فنحن ننسى أن اليهود لا يعتمدون على الحق التاريخي إلّا في دعايتهم لدى قراء التوراة والإنجيل(…) وأنهم يعتمدون في

واقع الأمر على حقّ ملموس وهو شراء الأرض واحتلالها بكيفية منظمة مخططة والدفاع عنها بكل الوسائل(…) في حين أن العرب يعتمدون أولاً وأخيراً على حقهم التاريخي.
في شذرة أخرى لمكسيم رودنسون حديث عن أنّ معظم اليهود آنذاك آمنوا بحلول أخرى غير حلّ الدولة القومية، حيث من هنا وجب الاعتراف ” بأن مقاومة الفلسطينيين لهذا المسار التاريخي تندرج في عداد الحركات القومية للشعوب المقهورة”.
شذرة أخرى لا تقلّ أهمية عن فلاسفة غربيين هم يهود بالهوية، كفرويد والمستعرب ماكسيم رودانسون، ثم هاهو جاك ديريدا رائد التفكيكية يعبر عن هذا التمزق أو الحرب تجاه الذات نفسها، مشيراً إلى المشاكل التي تعذّبه بدءاً بما اعتبره السياسة المفجعة والانتحارية لـ” إسرائيل”، تلك التي في نظره لا تمثل اليهودية ولا الشتات، بل لم تعد تمثل حتى الصهيونية العالمية أو الأولية. يشير ديريدا إلى أن الأصولية المسيحية التي تسمي نفسها صهيونية في أمريكا، تشكل نفوذاً يفوق نفوذ الطائفية اليهودية الأمريكية نفسها، حينما يتحدث ديريدا عن الـ”نحن” اليهود، هي الـ”النحن” المهمومة، في هذا التوتّر في الفكرة التي يسميها دريدا “اليهودي الأخير”.
هذا وفي شذرة أخرى، يشير ماسينيون إلى تشكل جبهة واحدة منذ 1948 بين المسيحيين والمسلمين ضد الصهيونية، فالمسيحي العربي الفلسطيني الذي يزعج موقفه المسيحي الأوروبي، يتمسك بطقوس العبادة العربية، بالحضارة العربية.
تبقى الشذرة التي تتعلق بجيل دولوز، حيث القضية الفلسطينية هي جماع المظالم التي ترتكب في حق هذا الشعب ولاتزال، كان الهدف منذ البداية واضحاً، على الشعب الفلسطيني ألّا يوجد، بل هو في نظر الإليرغوم لم يكن له وجود أصلاً. ما فعله الأوروبيون والأمريكيون هو محاولة التكفير عن الخطأ لليهود، غير أنهم فرضوا أداء ذلك على شعب ليست له أي صلة بذلك الخطأ، إن الصهيونية تنكر أصل وجود الفلسطينيين.
مع جون جوني، تناهت الثورة إلى أذنيه كما يصف ذلك حين بلوغه القواعد الفلسطينية في الضّفة، كما تتعرف أذن موسيقية على النغمة الصحيحة، يتساءل إن كانت الثورة الفلسطينية بمقدورها أن تجذبه لولا أنها تنهض في وجه شعب هو في نظره أكثر ظلامية، والذي يدّعي أن أصله هو الأصل، والذي يريد أن يظل هو الأصل.
شذرات أخرى، وأبواح تترى، تتساقط أوراق القصيد، هذا النغم الذي يصدر من شاعر اختبر هسيس الكلمات، هو كالشهيق من جسد يترنّح بمشاعر الحنين، إذ تقول قصيدة بنيس:
مقاطع تصعد من جسدي
نغماً
يتولد من نغم
سوف يكبر حتى يراني أغيب
لأني
امتلأت بما يتكون
تحت الظلال

كتاب “فلسطين ذاكرة المقاومات”، انتفاضة أدبية على طريق تعزيز الوعي بعدالة قضية تجرفها النزعات اليمينية التي باتت تلتفّ على الحق الفلسطيني، انطلاقاً من المصلحة الوطنية أولاً وأخيراً، مع إن المصلحة الوطنية لها أبعاد إقليمية ودولية، وهي في الكون الجيوستراتيجي، مصلحة مركبة، محاولة من الشاعر محمد بنّيس تُحمد له، في محصول ما أبدع يراعه شعراً ونثراً، تُحمد له، لأنّه أودعها حضناً شعريّاً به تخرج القضية من محنتها المضاعفة، من مفارقات يصنعها المحتلّ الذي يناطح كثور مجنون صخرة التّاريخ والشعوب، ألا يعلم أنه يوجد في بحر من العرب، إن صمتوا يوماً لن يصمتوا أبداً، وإن ضعفوا فسيولدون من رماد عنترة العبسي وثأر الرّمال المتحركة؟ وتخرجها أيضاً من محنة الاستكان، وركوب موجات تُجار الحروب والأزمات، هو صوت شاعر رفض جوائز يسيل لها لُعاب قوم تُبّع، شاعر يعرف من أي جرح تخرج الكلمات، وفي أي مرقد للسلام تتهجّد القوافي.. ليست فلسطين قضية يمكن الالتفاف عليها بصفقة قرن أو قرنين، بل هي من التعقيد والاحتراق ما ستجعل ميلاد نظام عالمي جديد، انتصاراً لتفكيك سائر الصفقات وتقويضاً لكلّ مشاتل الأوهام الجيوسياسية وقواعد الاشتباك، نحن في حافّة عالم، يعدنا بمفاجآت تتجاوز الاستهتار بالجغرافيا السياسية واستحقاقاتها، كما تتجاوز الاستخفاف بمصير الشعر والانتصار.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار