الاتحاد الأوروبي وسؤال المصير.. عندما يتحدث قادته عن اقتراب النهاية؟

لن يطول الوقت حتى يتخلى الأوروبيون عن آخر ما تبقى لديهم من مكابرة، يعاندون في التمسك بها، كأنها القشة التي ستنقذهم من الغرق في غياهب الغياب على الساحة الدولية وكأنهم لم يكونوا فيها أصلاً، ولم يكونوا مستعمرين لثلاثة أرباع بلدان الكرة الأرضية.

يرفض الأوروبيون الاعتراف بأنهم باتوا بلا دور على الساحة الدولية، أو لنقل بأنهم طردوا منها على يد حليفهم الأميركي الذي خيّرهم بين أن يكونوا قطعاناً في حظيرته ليحافظوا على تواجدهم لو نظرياً.. أو أن يُتركوا لوحدهم في مواجهة عالم جديد يتشكل، لن يكونوا فيه بأفضل حال.

نكون أو لا نكون؟

ربما لا يحتاج الأمر إلى اعتراف رسمي علني صريح، فكل تصريحات المسؤولين الأوروبيين على امتداد اتحادهم -الذي سيبلغ في آذار المقبل عامه الـ65- يغلب عليها القلق والتحذير من أن القادم من السنوات لا يحمل الخير لهم في حال لم تكن هناك: أولاً حلولاً جذرية لأزماتهم الداخلية (وما أكثرها) والتي أوصلت الاتحاد الأوروبي إلى حتمية «نكون أو لا نكون»… وثانياً في حال لم يكن هناك تبدل في علاقاتهم مع الولايات المتحدة، حيث ثبت لهم أن المشكلة ليست في سياسات ترامب، فها هو خليفته بايدن يتبع السياسات نفسها التي تمعن في تهميش الأوروبيين دولياً من جهة، وفي تفريقهم والعمل على تفكيك اتحادهم اقتصادياً وأمنياً وسياسياً من جهة ثانية، ما يعني أن هذه السياسات هي نهج أميركي متفق عليه رسمياً ضد الأوروبيين.

أحدث تصريحات المسؤولين الأوروبيين كانت لمفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمن جوزيب بوريل الذي قال الأحد الماضي: إن الاتحاد الأوروبي يُخاطر بفقدان قدرته على أن يكون لاعباً كامل العضوية على الساحة العالمية. مضيفاً في مدونته: يتعرض الأوروبيون اليوم بشكل متزايد لخطر أن يصبحوا أدوات وليس لاعباً في الشؤون الدولية، وأن يتفاعلون مع قرارات الآخرين بدلاً من تشكيل الأحداث بأنفسهم.

ويعترف بوريل كما كل الرؤساء والمسؤولين الأوروبيين أن للولايات المتحدة الدور الأساسي في الوضع المزري الذي وصلوا إليه على الساحة الدولية والذي انعكس داخلياً بمزيد من الأزمات داخل كل دولة وبين الدول الأوروبية نفسها، معتبراً أنهم معرضين ليكونوا «فرق عملة» أو كما يُقال في العلوم العسكرية «الضحايا الجانبيين الذين لا بد من وقوعهم» في سبيل محاولات الولايات المتحدة احتواء الصين والمحافظة على مكانتها بمواجهة القوى الجديدة الصاعدة عالمياً.

وليس جديداً بالطبع دعوة بوريل للاستقلال عسكرياً وأمنياً عن الولايات المتحدة عبر تشكيل جيش أوروبي خاص بموازاة الـ «ناتو».

فعلياً كل كلام بوريل ليس بجديد.. نسمعه منذ عقد مضى، لكن الجديد في تصريحات المسؤولين الأوروبيين هو أنهم يتحدثون عن أن هذا العقد –الذي مضى منه عام فقط ونقترب من دخول عامه الثاني بعد شهرين ونصف الشهر مستقبلين سنة الـ 2022- هو عقد مصيري بالنسبة لهم، وأنهم بنهايته أي في عام 2030 إما أن يكونوا موجودين أو غير موجودين.

الصديق- العدو

طبعاً هذا الحال لا ينطبق فقط على الرؤساء والمسؤولين الأوروبيين، بل يتعداه إلى الأوروبيين أنفسهم.. باختصار أينما وليت وجهك في الاتحاد الأوروبي فإنك ستجد القليل جداً من التفاؤل حول المستقبل، والكثير جداً من القلق والتوتر والاحتقان.. لماذا؟

الجواب لا يتركز فقط في السياسات الأميركية المعادية للاتحاد الأوروبي، بل يتركز أيضاً في الدول الأوروبية نفسها التي لم تكن فعلياً على «قلب واحد» ورأي واحد في الكثير من القضايا، الداخلية منها والخارجية، لا بل إن بعضها كان يعمل ضد هذا الاتحاد منساقاً مع السياسات الأميركية، وليست بريطانيا الوحيدة في ذلك، بسبب قرارها الخروج من الاتحاد، هناك دول أعضاء فيه لا تقل عن بريطانيا انسياقاً وراء السياسات الأميركية، بولندا على رأسها، ومجمل دول أوروبا الشرقية التي انضمت إلى الاتحاد في «مرحلة التوسعة» الثانية عام 2007 والتي لم تستفد من امتيازات الانضمام، لا بل تصاعدت أزماتها الاقتصادية، لدرجة أنها بعد سنوات قليلة أعلنت ندمها على الانضمام ورغبتها في الانفصال، هذه الدول كما تقول لم تشعر إلا بالغبن والظلم والاستغلال والمعاملة الدونية التي لقيتها من الدول الغنية في الاتحاد أي دول أوروبا الغربية ممثلة بشكل خاص في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، فكل منافع وفوائد وامتيازات الاتحاد تحتكرها هذه الدول، لتزداد غنى وقوة ونفوذاً.

طبعاً ما سبق غيض من فيض أزمات الاتحاد الأوروبي، لكن مسؤوليه يجدون في هذه الأزمات نتيجة لسياسات الولايات المتحدة وللتغيرات العالمية الهائلة التي لم يستطع الاتحاد مواكبتها.. وليست سبباً في الضعف الذي بات عليه، وبالتالي فإن كل حلولهم تتركز بشكل أساسي على الساحة الدولية، وبشكل خاص على إيجاد بدائل عن الولايات المتحدة أو بالتوازي معها، وصولاً إلى الانفتاح على الخصوم، روسيا والصين، إذا اقتضى الحال.. ألمانيا بدأت فعلياً هذا الانفتاح من دون انتظار أقرانها الأوروبيين، وذلك عبر اتفاقيات تجارية مع الصين من جهة، وعبر موافقتها على خط أنابيب الغاز «السيل الشمال» في جزئه الأوروبي رغم الضغوط الأميركية التي وصلت حد التهديدات.

ما العمل؟

حسب الخبراء السياسيين فإن الاتحاد الأوروبي لا يريد أن يتبع منطق الصديق- العدو مع الولايات المتحدة، لكنه في الوقت ذاته يريد أن يسلك طرقاً خاصة تركز على الاقتصاد كي يضمن على الأقل استمرار استقلاله المالي في حال فشل في تأمين استقلاله العسكري والأمني، وهذا ما فعلته ألمانيا.

هذا الانفتاح يقرؤه الخبراء السياسيين باعتباره نهجاً أوروبياً جديداً، بدأته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على أمل أن تتبعها بقية الدول الأوروبية.. لكن هذه «البقية» تريد أن تجرب طرقاً أخرى قبل أن تسير في طريق الانفتاح الألماني.. وعلى اعتبار أن المسؤولين الأوروبيين يعترفون بشكل غير مباشر بفشلهم في إيجاد حلول، فقد رأوا أن بإمكانهم الاستعانة بشعوبهم للمساعدة، وعليه فقد أطلقوا في آذار الماضي خلال فعاليات مؤتمر «مستقبل أوروبا» حملة «استشارة واسعة لمواطني القارة حول المشروع الأوروبي في العشرية القادمة» على أن تكشف نتائجه في ربيع العام المقبل 2022. في هذا المؤتمر وجهت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دين لابين «دعوة إلى جميع الأوروبيين للإدلاء برأيهم.. أن يقولوا في أي أوروبا يريدون أن يعيشوا.. أن يوحدوا قواهم لمساعدتنا في بنائها.. سنستمع وبعد ذلك سنتفاعل».

يتجاهل قادة الاتحاد الأوروبي أن مواطنيهم يعبرون باستمرار وفي كل انتخابات داخلية وأوروبية عن رأيهم.. لا يبدون كثير اهتمام بالسياسات الخارجية.. يعبرون في أغلبيتهم إما عن نزعات قومية أو انفصالية (قومية) وهم أكثر فأكثر باتوا معادين لمسألة الاندماج والذوبان في هوية واحدة، بمعنى أنهم باتوا معادين للاتحاد نفسه، وللمبادئ والأسس الموحدة التي قام عليها، فكيف يمكن لقادة أوروبا أن يوجهوا مثل هذه الدعوة.. ألم تفشل دعوتين مماثلتين في عامي 2002 و 2018؟

لا نعتقد أن قادة أوروبا مصابين بفقدان الذاكرة، ولكن هم كمن أسقط في يده، فدخل حالة تيه، لا يعرف أي اتجاه يسلك، إذ لا يخفى عليهم أراء مواطنيهم ولا مواقفهم، فإذا ما جاءت هذه المرة أيضاً معادية للاتحاد، وربما بصورة أشد، فماذا سيفعلون.. هل سيتجاهلونها كما في المرتين السابقتين ويمضون وكأنها لم تكن، أم أن هناك تدبيراً آخر؟

دعوة/ استفتاء

يرد قادة أوروبا بأن هذه الدعوة ليست استفتاء على بقاء الاتحاد أو تفككه، بل هي حصراً لبقاء الاتحاد عبر مقترحات وخطط تدعم هذا البقاء وتقويه وتعزز الاندماج ووحدة الهدف والمستقبل المشترك، وهي مشاركة في رسم السياسات الداخلية والخارجية.. عسى ولعل أن يفلحوا فيما فشل فيه قادة أوروبا، ولكن لا آمال كبيرة معقودة.

بالعموم لم يبد الأوروبيون الاهتمام المطلوب مع مرور سبعة أشهر على الدعوة، لا بل إن أحداثاً مفصلية جرت خلال هذه الفترة، من اتفاق «أوكوس» الذي يهمش أوروبا أكثر فأكثر، والانتخابات الألمانية وقرب مغادرة المستشارة أنجيلا ميركل الساحة السياسية لتكون ألمانيا على مفترق تاريخي، وهناك أحداث أخرى مرتقبة ستشهدها أوروبا خلال الأشهر المتبقية لمعرفة نتائج الدعوة.. أحداث معلومة، مثل الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وأحداث غير معلومة ستقودها الولايات المتحدة كما جرى في اتفاق أوكوس الذي صدم الأوروبيين ودفع بعضهم للحديث عن قرب النهاية.

الوقت يمضي

هناك مقولة شهيرة لونستون تشيرشل: «الأسبوع فترة طويلة جداً في عالم السياسة».. فكيف يكون الحال مع خمسة أشهر ستمر فيما مستقبل الاتحاد الأوروبي على المحك وقادته ليس بيدهم حيلة، وليس بينهم من هو من وزن تشرشل؟

الوقت يمضي.. ستمضي الأشهر الخمسة المقبلة، وستمضي أشهر غيرها حتى تنتهي هذه العشرية التي وصفها قادة أوروبا بأنها مصيرية. ولأن المكتوب يُقرأ من عنوانه، لا يبدو أن الأمور مبشرة، وربما على الأوروبيين (والعالم) الاستعداد لمرحلة تفكك تاريخية جديدة ستنعكس على الجميع إما وبالاً وإما قوة ونفوذاً، كل حسب ما حضر واستعد لهذه المرحلة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار