ألمانيا ما بعد ميركل.. انتظار من غير تفاؤل

ليس بالضرورة أن تمتد «فترة اللا يقين» في ألمانيا لأشهر، طالما أن نتائج الانتخابات كانت متوقعة إلى حد كبير ومنذ أشهر، تبعاً لنتائج انتخابات الولايات التي جرت خلال الأشهر الماضية، ثم تبعاً لاستطلاعات الرأي التي لم تعطِ فوزاً حاسماً لأي من الأحزاب التي خاضت الانتخابات الأحد الماضي.

هذا يعني أن الأحزاب المعنية -خصوصاً من كانت تضعه الاستطلاعات في المقدمة- يُفترض بها أن تكون قد دخلت في مفاوضات مبكرة (ما قبل الانتخابات) بخصوص تحالفاتها المحتملة لتشكيل ائتلاف حكومي ضمن أقصر زمن ممكن، فلا تتسع حالة التشاؤم المتواجدة أصلاً لدى الألمان حيال مستقبل بلادهم ما بعد أنجيلا ميركل مستشارتهم لـ16 عاماً، نعموا فيها باستقرار سياسي واقتصادي مقابل جوار أوروبي مأزوم، ووضع دولي غلبت عليه الفوضى والاضطرابات.. والتحولات الجذرية في الكثير من المناطق.

وحتى لو افترضنا أن تلك الأحزاب لم تدخل في مثل هذه المفاوضات، فإن دقة المرحلة التي تمر بها ألمانيا، وأوروبا بشكل عام، تحتم ألا تطول فترة اللا يقين وهذا ما تدركه بلاد الراين جيداً، عدا عن أنها فهمت رسالة الناخبين فيها، والتي كان التردد عنوانها الرئيسي، فأي من هذه الأحزاب بما فيه الحزبين المرشحين لمنصب المستشارية (الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الديمقراطي المسيحي) لم تكن مقنعة بما يكفي للناخبين ليمنحوها الثقة الكاملة كما كان الحال مع ميركل طيلة ولاياتها الأربع الماضية… حتى حزب ميركل -الحزب الديمقراطي المسيحي- لم يحظَ بهذه الثقة بعد انسحاب ميركل من المشهد السياسي، ليعود حزباً كبقية الأحزاب الأخرى، خاضع للتجاذبات الداخلية، وللاختبارات الشعبية على محك القضايا المفصلية داخلياً وعلى مستوى العلاقات الدولية.

يضاف إلى ما سبق أن السياسيين الألمان طالما اتسموا بالكثير من العقلانية والتوافقية حيال تحالفاتهم الحزبية، والحكومية، وإن اختلفوا على طريقة إدارة القضايا والملفات، خصوصاً لناحية العلاقات الدولية.

(كثير من العلاقات الدولية التي نسجتها ميركل لم تكن تحظى بتأييد سياسي كبير، خصوصاً مع روسيا والصين، أي التقارب معهما، على حساب العلاقة مع الحليفة الأطلسية الولايات المتحدة الأميركية وحتى على حساب العلاقة مع الدول الأوروبية نفسها).

قرار الفائز بيد الخاسر 

وعليه فإن فترة اللايقين قد لا تطول، رغم أن المحللين يغلب على حديثهم التشاؤم من حالة الإرباك والارتباك التي أفرزتها الانتخابات والتي وضعت الجميع في ملعب واحد، وبتناقض صارخ، حيث مصير الفائز بيد الخاسر، فمنصب المستشار ليس محتوماً لصالح زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي أولاف شولتز، رغم فوزه.. فقد يذهب لصالح زعم الحزب الديمقراطي المسيحي أرمين لاشيت، الذي حلَّ ثانياً.. هذا المنصب رهن بقرار من حزب الخضر الذي حل ثالثاً وحزب الديمقراطيين الأحرار الذي حلَّ رابعاً، علماً أن الأخير سبق وأعلن عن إمكانية تحالفه مع الحزب الديمقراطي المسيحي، أي حزب ميركل.

قد يكون أحد أسباب حالة التشاؤم هو أن القانون الألماني لا ينص على سقف زمني محدد لمفاوضات تشكيل الحكومة، ما يفتح الباب واسعاً للكثير من التجاذبات والضغوط وتالياً التأخير في التنصيب والتشكيل، هذا عدا عن أن هذه المفاوضات لا تقتصر فقط على منصب المستشار بل على كل تفاصيل توزيع السلطة.

لكن كلا الحزبين المتقدمين يؤكدان بأنهما قادران على حسم هذه التفاصيل قبل عيد الميلاد، وأنهما يعيان جيداً دقة المرحلة بالنسبة لألمانيا، ولأوروبا عموماً. ويعرب شولتز عن ثقته بأن ألمانيا لن تكون إلا مستقرة سياسياً رغم الشكوك المسيطرة المرتبطة بالمفاوضات الحساسة لتشكيل ائتلاف حكومي، فيما يقول لاشيت: ألمانيا لطالما شكلت تحالفات ولطالما كانت مستقرة. مضيفاً: ألمانيا ستتولى رئاسة مجموعة السبع العام المقبل 2022 لذا لا بد لنا من التوصل إلى تشكيل حكومة بسرعة كبيرة.

 عقدة ميركل

بكل الأحوال، وأياً تكن المفاوضات والتحالفات، وأياً يكن شكل الحكومة التي ستنتج عنها.. ستبقى عقدة ميركل (أو ما يُسمى الميركلية) حاضرة دائماً، وسيبقى باب المقارنة مفتوحاً، ليُنغص على خليفة ميركل كل ما يتخذه من قرارات، فمنذ أن أعلنت ميركل عدم ترشحها لولاية خامسة طغى على الساحة الألمانية سؤال واحد، ليس حول من سيخلفها، بل من هو القادر على ملء الفراغ الذي ستتركه وهي التي حظيت بشعبية تكاد تكون مطلقة، لم يسبقها إليها أحد ممن كان قبلها في منصب المستشارية؟.. وحتى على المستوى الأوروبي والدولي لطالما وصفت بأنها أكثر الساسة نفوذاً وتأثيراً.

السؤال نفسه مطروح أوروبياً حول من سيخلف ألمانيا في زعامة الاتحاد الأوروبي وكأن هناك رأي أو قناعة أوروبية بأن هذه الزعامة ستنتهي مع رحيل ميركل، بمعنى أن ألمانيا القوية اقتصادياً والمستقرة سياسياً بما أتاح لها قيادة أوروبا في الكثير من القضايا، لن تبقى كذلك بعد ميركل.

وعليه فإن حالة الترقب لا تقتصر على الألمان فقط ، لأن أياً من سيكون في منصب المستشار الألماني سيكون في مركز الضوء تماماً لناحية معرفة ما إذا كان سيبني على سياسات ميركل أو سيقود البلاد على مسار جديد.

ترقب وتوجس

هذا الأمر انعكس من خلال الإعلام الأوروبي والأميركي الذي لاحق ويلاحق الحدث الألماني والذي يتفق الجميع على أنه مفصلي في تاريخ البلاد، لكن هذا الإعلام يركز بصورة أساسية على روسيا، وخط غاز «نورد ستريم2» الذي وافقت عليه ميركل رغم التهديدات الأميركية.

علماً أن القضايا الأخرى لا تقل أهمية من مسألة اللاجئين إلى العلاقة مع الاتحاد الأوروبي– فرنسا خصوصاً، مروراً بالاقتصاد والتنمية المستدامة، والأمن، وصعود اليمين المتطرف ووباء كورونا وقضايا البيئة والمناخ والهجرة (أكثر من ربع سكان ألمانيا هم من أصول مهاجرة)… ومؤخراً جاءت الفيضانات الهائلة التي شهدتها البلاد وأسفرت عن خسائر مادية كبيرة، لتضاعف أعباء الائتلاف الحكومي المقبل.

وفيما لخصت مجلة «دير شبيغل» الألمانية مرحلة اللا يقين بـ«لعبة بوكر بدأت» حيث الأسئلة الرئيسية مفتوحة حول من سيتولى منصب المستشار وما طبيعة التحالف الذي سيحكم البلاد.. بدورها اعتبرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية أن نتائج التصويت لن تحدد مستقبل ألمانيا فحسب، بل مستقبل أوروبا كلها، فيما وصفت صحيفة «لافنغارديا» الإسبانية نتائج الانتخابات الألمانية بأنها كانت مربكة في «بلد يحب الدقة» لتجد ألمانيا نفسها في «أرض غير مستكشفة».

وتوقعت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية أن محادثات الائتلاف ستتحول إلى أسابيع أو حتى شهور من الجدل، فيما اعتبرت صحيفة «لوموند» الفرنسية أن هذه المحادثات ستكون أطول وأكثر صعوبة من أي وقت مضى.

 من غير تفاؤل

يترقب الأوروبيون من غير تفاؤل، ويتوجس الأميركيون من غير تفاؤل، فأي كان الذي سيخلف ميركل (لاشيت أو شولتز) فإنه سيُبقي على التقارب مع روسيا والصين، وربما يسعى لتوسيعه إلى مجالات أخرى، ما يعني تكريس انقسام أكبر أوروبياً، وعبر الأطلسي.. أما في ألمانيا فيرون أن حزبي الخضر والديمقراطيين الأحرار سيكون لهما بصمتهما في الائتلاف الحكومي باعتبار أن كلاً من شولتز ولاشيت يحتاج للتحالف معهما، وهذان الحزبان معروفان بمعارضتهما لسياسات ميركل في الكثير من القضايا، وفي مقدمها التقارب مع روسيا والصين.. هنا بالضبط النقطة الأساس، فإذا كان هذان الحزبان هما من سيقرر مصير الائتلاف الحكومي، فإنهما في مرحلة ما بعد التأليف لا شك سيفرضان -أو على الأقل سيضغطان- لفرض خياراتهما السياسية، وهي بالعموم متعارضة مع سياسات حزبي شولتز ولاشيت، ما يعني أن السياسات لن تبقى مستقرة كما كانت في عهد ميركل، حيث سيغيب التوافق، وستتعقد عملية اتخاذ القرار، وهذا سينطبق على السياسات الداخلية والخارجية على السواء، لتنضم ألمانيا إلى شقيقاتها الأوروبيات المضطربات المأزومات، وهذه أكبر مخاوف الألمان الذين ينتظرون مستشارهم الجديد.. من غير تفاؤل.

وبما أن المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة قد تستمرّ لبعض الوقت بعد الانتخابات، فإنّ ميركل ستصرّف الأعمال، وإن بقيت حتى 17 كانون الأول، فإنها ستكون قد تفوّقت على هيلموت كول، وأصبحت المستشار الأطول خدمة في العصر الحديث.

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار