تبدو العلاقات بين الولايات المتحدة والنظام التركي مشوبة بالغموض، أقله في هذه الأيام، الأولى من عمر رئاسة جو بايدن.
فريق من الخبراء يرى أن العلاقات الثائية بين البلدين، ذاهبة باتجاه زيادة سخونة المواجهة بين الدولتين مع أنهما حليفتان.
ويرى أنصار هذا الاتجاه أن الأزمة التركية- اليونانية في شرق البحر المتوسط، أدت إلى توتر العلاقات بين تركيا وبقية دول حلف شمال الأطلسي؛ لكنّ القضية الإستراتيجية الأكثر إلحاحاً تبقى مشكلة منظومة الدفاع الروسي “إس400”.
لكن فريقاً آخر يذهب بعكس هذا الاتجاه، ويرى أن في يد النظام التركي بعض الأوراق التي يمكن استخدامها في التعامل مع الإدارة الأمريكية الجديدة، إضافة إلى الأوراق التقليدية المتمثلة بمنظومة المصالح والمهددات المشتركة وتاريخية العلاقات بين الجانبين..
صحيح أن أنقرة لا تملك “رفاهية الصدام” مع روسيا وبالتالي لا يمكنها التراجع عن مسار العلاقات المتحسن مؤخراً وكذلك عن صفقة “إس400″؛ إلا أن أنقرة تستطيع تجميد تفعيلها، ثم تأخيره كما حصل حتى الآن، بما يجنّبها ردات فعل عالية السقف من واشنطن.
إضافة إلى ذلك، يمكن لأنقرة أن تدوّر زوايا الخلاف مع عدد من حلفاء واشنطن في المنطقة، ويبدو أن لديها توجهاً لذلك، إذ قال وزير الخارجية التركي جاوش أوغلو قبل أيام إن بلاده تعمل دائماً على “إبقاء قنوات الحوار مع السعودية مفتوحة” وعلى “عدم تأثر العلاقات بين الشعبين التركي والمصري سلباً بمشاكل العلاقات السياسية بين البلدين”.
مع قراءة وجهتي النظر هذه، يمكن القول: إن تركيا والولايات المتحدة لديهما مصالح مختلفة ولا تتشاركان التفكير نفسه، يمكن للبلدين العمل سوياً في بعض القضايا، لكن القضايا التي تثير اختلافات بينهما كثيرة بالفعل. ولعله من المفيد هنا الرجوع قليلاً إلى الوراء حيث أن الحوار بين واشنطن وأنقرة لم يكن بأفضل حالاته خلال السنوات الأربع الماضية، وقد شهد أزمات حادة وغير مسبوقة.
وعلى حين يرى الباحث غاليب دالاي في مقال نشره معهد بروكينغز للأبحاث أن الرئيس الأميركي السابق “حمى تركيا من العديد من الإجراءات العقابية المحتملة”. وعندما قرر في نهاية ولايته معاقبة تركيا لحيازتها صواريخ إس400 الروسية، فعل ذلك بعد مقاومة طويلة..
ورغم هذا فإن للكثير من أعضاء مجلس الشيوخ وجهة نظر مختلفة، وقد أثار وزير الخارجية الأمريكي بلينكن اهتمام العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين خلال جلسة تثبيته في منصب وزير الخارجية من خلال حديثه عن تركيا باعتبارها “شريكاً إستراتيجياً مزعوماً لا يتصرف في نواح كثيرة كحليف”.
وبالفعل، يُنادي أعضاء الكونغرس من اليمين واليسار باعتماد خطّ أكثر تشدداً، وكتب 54 من أعضاء مجلس الشيوخ من جميع الأطياف إلى الرئيس بايدن مؤخراً، يدعونه إلى اعتماد نبرة أقوى مع نظيره التركي في ما يتعلق بملف حقوق الإنسان.
ومنذ ثلاثة أسابيع، ضاعفت وزارة الخارجية الأميركية تحذيراتها القوية للسلطات التركية التي تواجه انتقادات على خلفية استمرار حملات الاعتقال لرجال الأعمال وقادة الرأي العام التركي.
كما حرصت الخارجية الأميركية على أن تنفي في بيان أيّ “تورّط” في المحاولة الانقلابية المزعومة في تركيا عام 2016 والتي أُطلِق أردوغان على أثرها موجة غير مسبوقة من القمع ضد المجتمع المدني التركي.
بالمحصلة قد تبدو تركيا مهمة في إستراتيجية بايدن للسياسة الخارجية وأولوياته فيما يخصها، وتملك أوراقاً يمكن استثمارها، ويوجد رهان على أن بايدن وبغض النظر عن مواقفه المسبقة قبل وصوله إلى البيت الأبيض (وصف في نظام أردوغان بأنه مستبد) يدرك أن استمرار الضغط على تركيا وتجاهل مصالحها سيدفعها للتقارب أكثر فأكثر مع روسيا، على غير رغبة منها ربما في ظل تعارض المصالح وازدياد التوتر بينهما مؤخراً في أكثر من ملف. تطوُّر كهذا سيكون مكسباً استراتيجياً لموسكو وضربة قوية لحلف الناتو، بعكس ما يريده بايدن تماماً.
قد لا ينبغي أخذ تصريحات بايدن خلال الحملة الانتخابية كمعيار وحيد للتقييم والاستشراف، إذ إنه غالباً ما تتباين مواقف الرئيس وتوجهاته بعد انتخابه عن تصريحاته قبله. في المقابل ليس من المتوقع أن ينقلب بايدن تماماً على كل إرث ترامب، إذ إن فيه ما يتفق معه، وفيه ما يتطابق ومصالح بلاده وأمنها، وفيه ما يصعب النكوص عنه أصلاً.
لا يعني كل ذلك أن العلاقات بين البلدين ستتجاوز كل الأزمات والملفات الخلافية، فذلك لا يزال بعيداً وفق المعطيات الحالية، بل لا يمكن نفي احتمال ضغط الإدارة الأمريكية الجديدة على أنقرة وربما فرض بعض العقوبات عليها. لكنها على الأقل ليست ذاهبة إلى قطيعة أو صدام، بل مرشحة للاستمرار على مسار السنوات الأخيرة ذاته، أي التذبذب بين التعاون والتوتر على أرضية مضطربة مبنية على تراجع الثقة بين البلدين.