بعد الرسائل التي نُقِشَت على جدران الكهوف العتيقة، ورسائل الحمام الزاجل في الحرب والسلم، و«رسالة في الزجاجة» بكل ألمها والرغبة في الانعتاق من الفَقْد، إلى جانب «رسالة من تحت الماء»،ورسائل العشاق محروقة الأطراف، وتلك التي يتبادلها الأدباء والمفكرون رداً على أسئلة الوجود الكثيرة، سواء ما يتعلق بالشك واليقين كما في «رسالة الغفران» للمعري، أو ما تتضمنه من سخرية مرة في «التربيع والتدوير» للجاحظ، أو رسائل «إخوان الصفا»، وغيرها، جاءنا وقتٌ لم تعد الرسائل فيه تتضمن لواعج العُشاق، ولا مكنونات الصداقة، ولا جماليات الفكر والسَّبك والخطّ، إذ بتنا في زمن «مئة رسالة غرام» و«خمسون مكتوباً في العشق»، بحيث إن الرسالة لم تعد مرآةً لروح كاتبها، ولا انعكاساً لنبضه، بل استنساخ عن مشاعر إنسان آخر، ولصقها في وضع جديد، من دون مراعاة أي خصوصية أو فرادة، ولاسيما بعدما تحوَّلت الرسالة من البوح إلى ما يشبه الوجبات الجاهزة، لتأتي الرسائل القصيرة (SMS) وتُغيِّر مزاج الاسترسال في المشاعر، وتقتضب الأحاسيس، ثم الإنترنت بقوالبه مُسبقة الصنع، ليساهم هو الآخر في ضرب روح الرسائل، حيث احتل الكيبورد مكان القلم، والشاشة بدل الورقة، ولم يعد هناك معنىً لرائحة الحبر ومسامات الورق،… ناهيك بالبشاعة الكامنة في إمكانية تحويل الرسالة ذاتها للعشرات،… أما الضربة القاصمة للرسالة، والتي جعلتنا نكره حتى اسمها، هي تلك الرسائل الدعائية التي تُصدِّع رأسنا ليل نهار عن عروض الربح المتواصل، من دون أن نربح منها شيئاً، وعن الأبراج الصينية التي لا تُبيِّض فَأْلَنَا ولا تجعلنا أَسْعَد، وعن دورات البرمجة العصبية، التي أتلفت أعصابنا، أما آخر صرعات الرسائل فهي رسالة الغاز التي قد تصلكم بعد أن تثبت تكاملية بهائها في تهتيك ما تبقى من حلاوة أرواحنا ونحن في انتظارها.