سوريّة الثقافية
الحدث الذي هزَّ الأركان السورية ليلة الثامن من كانون الأول (٢٠٢٤)، ليس من الهيّن على أي مثقف أن يقرأه في عُجالة.. فالثقافة تختلف عن مجالات الحياة الأخرى من حيث سرعة تكيفها مع المتغيرات الجديدة، فما بالك بحدثٍ مهول كالانتقال من منظومة ثقافية أمست اليوم سابقة إلى منظومة ثقافية حاضرة اليوم مختلفة عن سابقتها ..
وبعيداً عن (المحاكمات) التي ليس مجالها في هذه “الزاوية الصحفية”؛ فإنّ المبدع – وأيّاً كان المجال الذي يُبدع من خلاله- يحتاج لبعض الوقت ليُقدّم قراءته، ولأن يُجيب عن عشرات الأسئلة دون أن يتورط في التماثل لما قد يقرأه المحلل السياسي، وحتى الاقتصادي، وغيرهما من المحللين، لأنّ أي تشابه معهم في القراءة سيوقعه في التسجيلية والتوثيق والمباشرة، وهذا ما سيخرج عمله من فضاء الإبداع..
المبدع اليوم؛ مُطالب بإيجاد (المُعادل الإبداعي) لما حدث وتكثيفه في لوحةٍ تشكيلية على سبيل المثال، أو في عرضٍ مسرحي، أو في فيلمٍ سينمائي، وفي مسلسلٍ درامي، وحتى في قصيدة شعرٍ، أو في قصةٍ قصيرة، وكذلك في رواية.. ولإنجاز هذا (المُعادل الإبداعي) نتفهم من المبدع تريثه، ريثما يقرأ الحدث- الأحداث من جهاتها كلها.. هذا أولاً؛ لأنّ أي قراءة مجتزأة، أو قراءة من جهة دون أخرى، سيكون العمل الإبداعي ناقصاً، وربما ينتابه خللٌ ما، يُغيّب الكثير من مقولاته وجمالياته الفنية والفكرية..
أما ثانياً، فالعمل الإبداعي كالرواية أو العرض المسرحي، أو المسلسل التلفزيوني، وحتى الفيلم السينمائي يحتاج بدوره إلى الوقت الطويل لإنجازه، فنحن اليوم وبعد مرور عقودٍ طويلة على الحرب العالمية – على سبيل المثال- لايزال مثل هذا الحدث يوحي لمختلف المبدعين في مشاربهم أن ينهلوا منه لتقديم إبداعاتهم الجديدة.
وأما ثالثاً: فثمة أوليات ضاغطة على السوريين، قد تكون الثقافة – على أهميتها- تأتي تالياً سواء على صعيد رجال العهد الجديد، أم على صعيد المواطن السوري، لاسيما في هواجسه الكثيرة كالاستقرار الأمني والحالة المعيشية للسوريين لاسيما من كهرباء ومحروقات وغيرهما من الطاقة..
أخيراً، أشير إلى أمرين: إنّ سوريّة الثقافية مستمرة في إنجازها الفكري والثقافي منذ قديم التاريخ إلى اليوم وإلى قادمات الأيام، وشواهدها الثقافية الضاربة في عمق هذه الأرض العتيقة – إلى اليوم في مسارحها العتيقة في بصرى الشام وجبلة وتدمر وعمريت القديمة، وكذلك في قلاعها وأوابدها الشامخة على سفوح وقمم الجبال.
والأمر الآخر إنجازات السوريين، سواء داخل سوريّة أو خارجها، فبالأمس، عادت بسطات الكتب إلى تحت الجسر في منطقة البرامكة بجوار المتحف، وقد غابت عن هذا المكان بقرارٍ مجحف أصاب أصحاب هذه البسطات التي كانت تُشكّل معلماً ثقافياً لدمشق، وها هو متحف دمشق يُعلن عن فتح أبوابه غداً لزواره..
وفي خارج سوريّة هاهي رواية (وارثة المفاتيح) للكاتبة السورية سوسن حسن – التي تُقيم في فرنسا- تدخل القائمة الطويلة لجائزة البوكر لهذا العام..
واختم: لتهدمَ بنياناً فاسداً تحتاج إلى القوة، ولكن؛ لتشيدَ بنياناً بديلاً، تحتاج إلى: قوة المعرفة والحكمة والعدالة..