الواقعية هي الإنصاف
تشرين- ادريس هاني:
فشل الإعلام في استقطاب أهل الرّأي والرّوية، فلقد اجتاحته الشعبوية وتحوّلت الوسائط بموجب ذاك إلى بؤر ديماغوجية قاتلة، ساهمت بشكل ممنهج في استبغال الوعي بالواقع والمصير. وأمّا الواقع فبات هارباً منّا بفعل هذا الزخم الديماغوجي الذي يتوسّل التكرار، وأمّا المصير فهو موضوع خرافة أيضاً، التّخريف الاستشرافي الذي يرهن المستقبل للرغبة ويخضعه لمراقبة الجهل.
لكم كنت أتمنّى أن لا يتكامل دوران في هذا التدفّق الديماغوجي، أعني أولئك الذين يشتركون في الجهل بالواقع من هذا الطرف أو ذاك، وإن شطّ بنا الذهن فاعتبرناهما نقيضان. إنها وضعية دياليكتيك زائف، في شروط يصعب أن تُنجز فيها الحركة الجوهرية مهمّتها التاريخية، لا في النفس ولا في المجتمع.
حمّالو الوعي والحلول الواقعية ينصحون بالاعتراف، بما وجب فعله حيال الكوارث. أتذكرون جون مينار كينز الذي قلب الطاولة على صاحب ثروة الأمم، على فكرة اليد الخفية، عشية الحرب العالمية الثانية وتمأزق النظام الاقتصادي الرأسمالي، كان كما فعل في العواقب الاقتصادية للسلام ينبّه إلى أنّ فرنسا هي الوحيدة التي بدت معزولة، معزولة عن الواقع، لنقل تعيش حالة شلل، وذلك لأنّ مسؤوليها لم يقولوا الحقيقية لمواطنيهم ولا لأنفسهم، وكان يشترط هنا أن يوجه خطابه كما فعل في المقدمة الفرنسية للبحث نفسه، بمناشدة – ليس السياسيين- الذكاء الفرنسي وإلى روح الشعب الفرنسي الذي يتوق إلى رؤية الأشياء كما هي واستخلاص العواقب، يتوجه إلى تلك المثالية أيضاً التي هي بنت الحسّ المشترك والإنسانية. هذا الخطاب هو الذي فتح أفقاً لتجاوز الأزمات وملامسة الواقع كما هو.
تغيب عنّا الحلول الاستراتيجية، يتقدّم إلى إدارة النقاش العمومي هواة يفتقدون للخبرة وللحدس الاستراتيجي، وتتراكم أشكال الجهل المُركّب. تبدو الحاجة ملحة لكينز عربي، أعني من يمتلك الرؤية الواقعية والحلول العملية وينجح في رسم المنعطف بعد كارثة عالمية. وبغضّ النظر عن محتوى الكينزية، فهي فكرة غيّرت مجرى العالم أيضاً بواقعيتها ووضوحها. وفي المقابل، كنا ولا زلنا نعتمد على آباء الديماغوجية في البحث عن مخارج وحلول لوضعيتنا العربية، استراتيجيا القول والتِّقوال، غياب الرَّوِيَّة والتحقيق، شعبوية الخطاب، النزعات الكيدية، الرغبة في التأزيم، تسطيح المقاربة، نزعة الثّأر والعصبية، جهل بالتاريخ والتفاف على الراهن واستخراف المستقبل.
في مأزقنا العربي، سيكون من المجازفة الحديث عن حياد أو لا مبالات تجاه ما يجري حولنا. النقيضة المنطقية لخطاب الحياد هو حينما نتحدث عن الأعماق الجيو- ستراتيجية للدول عن التوصيف، ثم عندما تشتعل الأزمات نفتعل العزلة ونراهن على حكمة الهروب.
لا شيء أكثر واقعية من منازلة احتلال على الأرض، هناك حين تشتعل الحرائق ويكتوي الواقع بالنّار، تصبح المثالية الرّثة من نصيب الحياد. هل هذه المعركة كفيلة بتقويض الاحتلال، هل شرط سقوط الاحتلال أن يسقط الغرب ويزول، هل نحن واقعيون نحترم منطق الأشياء حين نتحدّث عن زوال أمريكا قريباً، مثلاً؟.. فلا زال الإعلام يمدّنا بهذه الديماغوجية وهذا النوع من الاستشرافات الحمقاء التي تقوم على فكرة الإمكان، بينما الحق أنّ الإمكان ليس هو الواقع، فليس كل ممكن هو واقعي. ولا شكّ أن تلك من نوبات القياس تقمّصاً أو إسقاطاً، لأنّ الديماغوجيا تتجاوز الشروط الواقعية، فتقدّم عَلَفاً مسموماً للوعي.
إنّ الاستهانة بمقاومة الشعوب للاحتلال ليست من الواقعية في شيء، وإنّ تهويل القدرات الفائقة للاحتلال ليس من الواقعية في شيء. الالتفاف على الواقع غالباً ما يتمّ بعنوان الواقعية، ذلك لأنّ الواقعية تعني التحرر من الديماغوجية، خرق الرغبة والمصلحة والاصطفاف ضدّ ما يدعونا إلى الإنصاف.
قلت، إنّ الشيء الأكثر واقعية هو مجريات الميدان، المثالية-التكنوقراطية، أولئك الذين يعرفون فقط المبدأ والتقنية بعيداً عن الديماغوجية والثرثرة، أي ما يجب فعله. الديماغوجية تقوض المنجزات والمكتسبات. كان الجميع يعتقد أنّ الإعلام متقدّم على الميدان، لنكتشف أنّ الإعلام ليس فقط متخلفاً عن الميدان، بل مشوِّشاً عليه ومعرقلاً لصيرورة الوعي.
كاتب من المغرب