«عدٌّ عكسي» لهنادة الصباغ.. نحتٌ مسرحيّ
تشرين- بديع صنيج:
مازالت هنادة الصباغ قادرة على إدهاشنا في اشتغالاتها ضمن مسرح الدمى، إذ إنها لا تكتفي بسبر أعماق الكينونة الخاصة لدُماها، بل تُعيد التفكير مراراً وتكراراً في منحها إرادتها الخاصة، بحيث لا تبقى تلك الدمى رهينة الخيوط والعيدان المتصلة بها، بل تصبح وكأنها مكتفية بذاتها، تعيش ضمن عالمها الفريد، تتحرك فيه من دون الخضوع لقوانين الفيزياء التقليدية، ومن حركتها تلك وتشكيلات ملامحها المصاغة من الورق وبعض المواد والألوان تستطيع أن تنقل لنا مشاعرها الذاتية، والأهم أنها تُرَمِّم نقص أرواحنا رغم هشاشتها ورهافة تكوينها، إذ إنها بتماهيها مع ضعفها، ووعيها له، تزداد قدرة على تسويغ جبروتها الدرامي، وبالتالي تتركنا أسرى الدهشة منها، ومن إرادتها الخلّاقة التي تُمكِّنها من مساندتنا في إعادة قراءة واقعنا ومآزق وجودنا ومرارات حياتنا، أي إنها بوجودها البريء وخفَّة روحها وثبات عقيدتها، فإنها تداوي عطب كينونتنا وتُرصِّع بجمالياتها مآسينا.
وفق هذه الرؤية صاغت هنادة الصباغ تفاصيل عرضها “عد عكسي” المستمر على خشبة مسرح الحمراء، آخذةً إيانا مع دماها في سيرة وجود تبدأ من الموت وتنتهي بالولادة، وما بينهما من أفراح وأتراح، صراعات وتأمل، أحلام وكوابيس، تحديات ونجاحات، عقبات وحلول، آمال وإحباطات.. بحيث إنها رسمت أمامنا حياة كاملة لإنسان عادي يُصارع كينونته، وإغواءات وجوده، ويختبر إرادته في العيش داخل إطار خياراته المتاحة، بكل حيويتها ونوازعها لتحديد معنىً خاص لحياته، وذلك ضمن عملية استعادية لتفاصيلها المحزنة والمفرحة، تبدأ من بحثه في ماهيته كروح طافية تبحث عن روح شريكة حياته التي سبقته في الرحيل إلى العالم الآخر، ثم في اختبار وحدته ووحشته من دونها عندما كان مازال على قيد الحياة، عجوزاً مُنهَكاً، يواسي نفسه بمرافقة كلبه، وجلوسه على كرسيّه الهزاز الذي تهتز معه كل ذكرياته ومشاعره، فيسير متهادياً على عكازٍ ما عاد قادراً على سنده في ظل كل الغيابات التي يعاني منها، فإضافة لرحيل زوجته وحبيبته، فإن أولاده سبقوها إلى الغياب بعد أن تخرجوا أو تزوجوا، لذلك نراه يحن إلى تلك الأوقات التي كانت عائلته تجتمع على مائدة واحدة بكل ما يعنيه ذلك من حميمية عالية، ووجدانيات بقيت في الذاكرة.
الاستعادة تتضمن أيضاً نجاحات الأولاد، وقبل ذلك الفرح بقدومهم إلى هذه الحياة، وتحديات الأب في الحفاظ على أمانهم وتأمين متطلباتهم.. وفي زمن سابق نرى كيف يتعزز الصراع مع طيف الخيارات الواسع لذاك الإنسان الذي تتشابك إرادته مع وساوسه فمرة يكاد ينهي حياته، وفي أخرى تأخذه الشهرة والمجد فيصبح مغروراً، وثالثة يكتشف مُتَع الحياة وأفراحها الزائلة، ورابعة يفكر بمعنى وجوده وقيمته، لينتهي ذاك الصراع عندما يأخذ قراره بالاستقرار والزواج ومن ثم اختبار الخلود في الوجود من خلال الإبقاء على اسمه حياً من خلال أولاده. وقبل ذلك تستعرض لنا هنادة ذاك الإنسان في صباه وثم في طفولته ولعبته وزعرناته، وهكذا وصولاً إلى كونه مجرد جنين في رحم أمه.
الدهشة التي حققها العرض لم تأت من الحكاية، وإنما من كيفية تجسيدها على الخشبة، ففضلاً عن براعة مُحرِّكي الدُّمى الذين أعاروا وعيهم وإرادتهم إلى الدمى، بينما بقيوا هم في الظل، وجعلونا لا نشعر بأننا أمام كائنات من ورق، بل شخصيات من لحم ودم وروح، وإضافة لذاك البهاء فإن السينوغرافيا التي تحرَّت ضمنها الدمى، كانت مبهرة إلى أبعد حد، فالموسيقا التي اشتغل عليها سامر الفقير تأليفاً وإخراجاً كانت متماهية مع أفعال الشخصيات والمناخات الموضوعة فيها، لدرجة لا نعرف أيهما يُدوزن الآخر، الموسيقا أم حركة الدمى، ليس ذلك فقط، بل إن الفقير أحاط فضاء العرض كله بثيمة لحنية واحدة قادرة على الانتقال من أقصى الشجن إلى أعلى درجات الفرح، وما بينهما من حالات تردد وخوف وانبهار وترقُّب.. بمعنى أن سيرة حياة ذاك الإنسان واكبتها سيرة موسيقية من ألم وأمل، من حب وانكسار، من حنين وتَخَلٍّ، وكل ذلك من مادة الحياة نفسها، بحيث ساهمت في تعزيز حيوية الدَّمى ورسمت لهم مسارات تتواشج بين الظاهر والباطن، المعلن والمخفي، وكأنها أعادت مَوْسَقة الروح بالمادة فباتت أبهى وأجمل.
عنصر آخر مبهر حققه أدهم سفر في رؤيته البصرية التي لم تقتصر عبر إرسال أشعة ضوء بقدر ما حققت ولادة للنور في إسقاطاته على الدمى، والمساعدة في جعل المناخ مناسباً لتعزيز حيوية الدمى، وضخ الروح في ثنايا الهيولى الخاصة بها، ومن جانب آخر فإن دراما الضوء التي حققها “سفر” تواءمت مع التشكيلات الحركية التي أرادتها “الصباغ”، واحتضنتها بطريقة ذكية تدرك معنى الزمن وتأثيراته المتداخلة على مضمون الشخصيات، ليس ذلك فقط من خلال الساعة الرملية المعلقة في أعلى مقدمة الخشبة، بل في الفوارق الدقيقة بين أطياف الضوء ومغازيه اللونية، فضلاً عن الرهافة في مداورة إضاءة المكان وتفاصيل الفضاء المحيط بكل مشهد، من أوراق الخريف التي
تذروها الريح، إلى تهويمات الروح في المقابر، إلى ثريات سقف البيت، مروراً ببدر السماء، ورحم الأم.. ما أضاف جمالاً على الديكور المشغول بعناية هو الآخر، والذي على بساطته فإنه استطاع أن يندغم بمهامه الدرامية على أكمل وجه، محققاً غنىً بصرياً من دون مبالغة.
ليكون عرض “عد عكسي” لمبدعته هنادة الصباغ بمثابة نحت مسرحي، لكنه هذه المرة لم يكتفِ بالأبعاد الثلاثة، وإنما تجاوزها إلى البعد الرابع المتعلق بالزمن ومعناه الروحي، وهو ما زاد من ديناميكية العمل وحيويته وعلاقته بالجمهور الذي واكب حياة كاملة في خمس وخمسين دقيقة مدة العرض.