زيارة مودي إلى أوكرانيا.. ما الذي ستكشفه الأيام المقبلة حول المباحثات والنتائج؟
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
لا شك أننا نحتاج بضعة أيام، وربما أسابيع، لنرى ترجمة عملية لنتائج زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى أوكرانيا. فعلى مدى يومي الزيارة لم تفصح الصور والتصريحات المقتضبة عن الكثير مما دار في المباحثات، التي لا بد وأن تكون مهمة جداً ما دامت الزيارة موصوفة بالتاريخية، وما دامت تأتي في ظل انعطاف مشهد الحرب الأوكرانية نحو مزيد من التصعيد بين روسيا والغرب، على خلفية تطورات جبهة كورسك.
على الأكيد لم يكن دخول الهند إلى مشهد الحرب الأوكرانية مفاجئاً، في ظل ما تتمتع به من علاقات متينة مع روسيا، التي زارها مودي قبل شهر ونصف من الآن. وعلى الأكيد ليس مفاجئاً أن تتقدم الهند بمبادرة سلام، وأن تبذل مساعي في إطار ما يسمى تقريب وجهات النظر في سبيل إنهاء الحرب.. ولكن هناك أكثر من إشارة استفهام، في ظل أن روسيا لم تعلق على الزيارة، وباستثناء الخبر المتداول عنها في الإعلام الروسي فإن المستوى الرسمي لا يتناول هذه الزيارة. وسبق أن أطلقت روسيا تصريحات حاسمة ما بعد مهاجمة النظام الأوكراني الذي يقوده فلوديمير زيلينسكي، منطقة كورسك الروسية (في 6 آب الجاري) بأن لا مفاوضات سلام مع هذا النظام بعد مهاجمته كورسك.
هذا لا يمنع أن روسيا راقبت زيارة مودي لأوكرانيا، وهي تترقب نتائجها، وعلى الأغلب أن الجانب الهندي سيضع روسيا في صورة الزيارة والمحادثات، خصوصاً أن الهند، حسب ما هو مقرر ومعلن، ستشارك في جولة ثانية من مفاوضات السلام التي ستعقد في العاصمة الأوكرانية كييف في الأيام المقبلة. وسبق للهند أن شاركت في جولة المفاوضات السابقة التي عقدت في سويسرا في 14حزيران الماضي (والتي غُيبت عنها روسيا) إلا أن المشاركة كانت على مستوى متدنٍ. وهي جولة انتهت على فشل.
ومن خلال التصريحات التي أطلقها مودي قبل وخلال الزيارة، خصوصاً بعد لقائه زيلينسكي، يبدو أن الزيارة كان هدفها الرئيسي هو بحث إنهاء الحرب وفتح باب للسلام، ولكن ما اختلف عليه المراقبون هو ما إذا كان مسعى الهند هو بخلفية روسية أم بخلفية غربية، فالهند دولة مقربة من الجانبين، من روسيا ومن الغرب، وربما هذا الأمر يخدمها، ويصب في مصلحة مسعاها، ولكن هل يُكتب لهذا المسعى النجاح؟.. هذا ما لا يختلف عليه المراقبون، وهو أن أي مسعى من الهند (وقبلها من الصين) أو من غيرها، لن يكتب له النجاح في ظل ما وصلت إليه العلاقات الروسية- الغربية من تدهور، وفي ظل أن الغرب هو من يقود فعلياً النظام الأوكراني في عموم الحرب، وفي جبهة كورسك خصوصاً.
هذا ليس تقليلاً من شأن المسعى الهندي (وقبله الصيني) أو غيره، ولكن عندما تتحول أوكرانيا إلى تهديد وجودي، ليس فقط مستمراً، بل يتم تغذيته وتسمينه غربياً بصورة متواصلة ومتسارعة ضد روسيا، فإن أي مبادرة سلام لن تنجح.
قبيل لقائه زيلينسكي (خلال مؤتمر صحفي في العاصمة البولندية وارسو قبيل توجهه إلى كييف) قال مودي: لا يمكن حل أي مشكلة في ساحة المعركة، مضيفاً: الهند تدعم الحوار والدبلوماسية لاستعادة السلام والاستقرار في أقرب وقت ممكن، مشيراً إلى أنه يتطلع إلى مشاركة وجهات النظر بشأن الحل السلمي.
وخلال لقائه زيلينسكي، قال مودي إن بلاده مستعدة لتقديم مساهمات استباقية في جهود السلام. وأضاف: «مستعد شخصياً للعب أي دور كصديق للمساعدة في إحلال السلام». ورد زيلينسكي بوصف الزيارة بالتاريخية «والرمزية» كونها تأتي قبل أيام قليلة من ذكرى استقلال أوكرانيا.
وبعد الزيارة قال زيلينسكي:«من المهم لنا أن تظل الهند ملتزمة بالقانون الدولي وتدعم سيادتنا وسلامة أراضينا».
وكانت تصريحات مودي محل متابعة شديدة لرصد ما إذا كان سيقول ما من شأنه «المس» بروسيا، لناحية التطرق لـ«وحدة وسيادة وسلامة الأراضي الأوكرانية» كما جاء في قول زيلينسكي، لكن مودي لم يفعل، وكان بالغ الحرص في إطلاق تصريحات عامة وباتجاه محدد.
بكل الأحوال، هذا لم يمنع المراقبين والمحللين من التعمق أكثر في زيارة مودي إلى أوكرانيا، لناحية الأبعاد والأهداف، علماً أن زيارته لبولندا كانت أيضاً لافتة وإن لم تحظ بكثير اهتمام. بولندا منذ البداية وضعت نفسها في قلب الحرب الأوكرانية ضد روسيا، وهي الأكثر تحريضاً وتزويداً بالسلاح لنظام زيلينسكي، وتهدد علناً بتوسيع دورها الميداني… لكن بالمقابل هناك اتهامات لا تنتهي لبولندا بخصوص أطماعها في أوكرانيا باعتبار أن لها حقاً تاريخياً في أراضيها، وفق الخريطة الدولية ما قبل الحرب العالمية الثانية.
مع ذلك، فإن كل التركيز كان منصباً على أوكرانيا، وعلى مسألة ما إذا كان هناك أهداف أخرى تسعى الهند إلى تحقيقها من وراء مسعى السلام. ويمكن إجمالها على اختلافها وتناقضها كالتالي، دون أن يعني ذلك التقليل من الدور الهندي أو من متانة وقوة العلاقات الروسية الهندية:
– بالمجمل تتجه أغلب توقعات المحللين، رغم الأهمية الكبيرة للزيارة، إلى أن مودي لم يقدم أي «مقترحات اختراق» لإنهاء الحرب. قبل أن تكون هناك محاولات للتفاوض يجب أن يستقر الوضع العسكري، ويجب أن تضع المعركة الرئاسية أوزارها في الولايات المتحدة الأميركية الداعم الرئيسي لنظام زيلينسكي.
وبالتالي فإن الهند ليست لديها خطة سلام، وإنما تسعى في خضم التغيرات التي يشهدها الميدان إلى الاستماع من الطرفين الروسي والأوكراني، خصوصاً وأن مودي زار روسيا قبل شهر ونصف، وعليه قد تكون زيارة مودي اقتصرت على نقل الرسائل وليس الوساطة إذا ما أخذنا بالاعتبار قوة العلاقات الروسية- الهندية.
– فريق من المحللين يرى أن زيارة مودي لأوكرانيا لا تعني بأي حال تقارب مع نظام كييف على حساب موسكو، وأن الهدف هو منع تحالف صيني – روسي أوثق بزعم أن الهند تعتبره خطراً عليها، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن الغرب يتعاطى مع الهند كبديل عن الصين، وهو بالأساس يسعى للتقارب معها لاحتواء الصين، وهو ما تدركه الهند جيداً.
أكثر من ذلك، يرى هذا الفريق أنه «في الهند لا يحبون الولايات المتحدة، لكنهم لا يحبون الصين أيضاً، وكلما ازدادت العلاقات قوة بين موسكو وبكين سارعت نيودلهي نحو مزيد من التطبيع مع الغرب، عبر بوابة أوكرانيا، كما تفعل حالياً». هذا يعني أن المسعى الهندي هدفه قطع الطريق على المبادرة الصينية، على قاعدة أن احتمالات نجاح المسعى الهندي أكبر على اعتبار أن الهند لديها علاقات جيدة مع جميع الأطراف، مع روسيا، وأوكرانيا، والغرب.. وعلى اعتبار أن الولايات المتحدة لن تسمح للصين بأن تلعب دور الوساطة، ولكن يمكن أن تسمح للهند بذلك.
– بالمفهوم الأوسع، هناك من يرى أن الزيارة حملت رسالة مفادها قدرة دول الجنوب الآسيوي على التوسط ، بعد أن تقاعست الدول الغربية عن التدخل بقوة وبجدية لإنهاء الحرب، هذا عدا عن رغبتها في إطالة أمدها بهدف استنزاف روسيا.
– من وجهة نظر أوكرانيا، فإن الزيارة مهمة، لأن الهند لديها تأثير معين على موسكو، ومن المهم بناء علاقات فعالة معها، ومع دول مماثلة، لشرح وجهة النظر الأوكرانية فيما يخص الحرب ونهايتها وبما يصب في مصلحة نظام كييف. ومن المعروف أن منطقة جنوب آسيا لم تكن أولوية بالنسبة لسياسات أوكرانيا الخارجية، وكان التركيز دائماً على تحسين وتطوير العلاقات مع الغرب.. وهكذا تُركت الساحة الهندية لروسيا وبما عزز المشاعر المؤيدة لموسكو في الهند، والتي هي قوية بالأساس منذ الحقبة السوفييتية.
بالعموم هناك كثير من القضايا أفسدت العلاقات بين الهند وأوكرانيا، خاصة التعاون العسكري بين أوكرانيا وباكستان. فزيارة مودي تعد الأولى من نوعها، بالنسبة لمسؤول هندي كبير، منذ استقلال أوكرانيا.
– من وجهة نظر عامة، فإن زيارة مودي ليست أمراً معادياً لروسيا. الهند دولة قوية تريد تنويع سياساتها الخارجية، وبما يدعم موقفها الإقليمي فيما يخص الكثير من القضايا والنزاعات. الهند لديها نزاع حدودي مع الصين في جبال هيمالايا، ونزاع ما زال قائماً مع باكستان حول كشمير. ولا يمكنها الاعتماد على روسيا فقط. ولذلك، فإنها ستواصل الحفاظ على علاقات قوية مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى.
مع ذلك فإن الهند تحتاج دائماً إلى إحداث توازن دائم في العلاقة مع روسيا ومع الغرب. مودي يعلن دائماً أن العصر اليوم ليس عصر حروب وليس من المستبعد أن يكون مودي قد تباحث مع بوتين على إيجاد صيغة لإنهاء الحرب، وربما بحث ذلك مع زيلينسكي، خصوصاً وأن مودي دعا زيلينسكي إلى الجلوس على طاولة التفاوض مع روسيا.
بكل الأحوال لا بد من انتظار ما ستظهره الأيام المقبلة لناحية مضمون ونتائج الزيارة، لربما كان هناك جديد أو بداية مسار من نوع ما، وإن كانت أغلب التوقعات تميل باتجاه اتساع ميدان الحرب وتفاقم الصراع الروسي الغربي.
أكاديمي وكاتب عراقي