“أبولودور” الدمشقي.. معماري سوري خلّد بصماته على جدران روما
تشرين- سناء هاشم:
قال الشاعر اللاتيني “جوفيال” يوماً: “إن نهر العاصي السوري، أخذ يصب مياهه منذ وقت طويل في نهر التيبر، حاملاً معه لغته وعاداته.. وهذا خير دليل على الحضور السوري المتميز ونفوذه في روما”.
هذا التشبيه المجازي ينطوي على اعتراف بالملامح الشرقية السورية التي أسبغت على الإمبراطورية البيزنطية، ويجسد أحد الأزمنة التي كان خلالها للحضور السوري المبدع أثر لا يمكن إغفاله في أوروبا القديمة.
وأبولودور، أحد المبدعين الذين ولدوا في دمشق والمكنى لاحقاً باسمها، طبع النهضة العمرانية في روما بطابع شرقي خارجاً عن التقاليد المألوفة في العمارة والبناء آنذاك.. ولأن العمران هو ما يتبقى بعد زوال الحضارات واندثارها، ليتحول بذلك إلى مرآة عن حضارة الشعوب وتقدمها ومدنيتها، فقد ظلت آثار الإمبراطورية البيزنطية حاضرة إلى يومنا هذا من خلال ما تبقى من آثارها، وكان لهذا المبدع الدمشقي يد عبقرية التكوين ساهمت في تاريخها، إنه أبولودور الدمشقي المعماري الأعظم في التاريخ القديم .
تقول التدوينات الغربية، وتحديداً في سلسلة “تاريخ كامبردج القديم”: يعتقد بعض العلماء بأن سورية في مجال العمارة كانت متقدمة على “روما” بل كانت بالنسبة لها النموذج الذي احتذته، مؤكدة أن سورية تفوقت على روما في عبقريتها المبدعة وفي معارفها التقنية وفي مهارة عمالها.
و”أبولودور” الدمشقي الذي يتحدث عنه كتاب كمبردج، هو ذلك المعماري والمهندس المدني والعسكري السوري الذي ولد في دمشق عام 60 ميلادي وتوفي في 125 ميلادي، وقد بلغ في عهد الإمبراطور الروماني تراجان الذي حكم روما بين عامي (98- 117) ميلادي، منصب وزير الأشغال العامة، ومن خلال تأمل تمثاله النصفي الموجود حالياً في متحف ميونيخ بألمانيا يتضح أنه كان متين البنية متوازن الشخصية نبيل القسمات وفيه مهابة ووجهه يختزن سمات شرقية لا شك فيها.
كما أن معظم الدراسات التي كتبت عن “أبولودور” الدمشقي، ومنها دراسة الدكتور الراحل عدنان البني تقول: إن وراء اسمه تكمن أعظم المنجزات المعمارية الرومانية في عهد الإمبراطور تراجان الذي كانت تربطه بأبولودور صداقة متينة تعود إلى أيام خدمة تراجان كمحامٍ عسكري في سورية، عندما كان والده والياً عليها، واستمر الأمر كذلك حين أصبح حاكما على روما.
ويتخذ الفن في عهد الإمبراطور تراجان صورة مختلفة عن العهد الهلنستي، إذ ظهرت منحوتات بمفاهيم جديدة تمثل لأول مرة الطبقات الشعبية في العديد من المشاهد، وكان وراء ذلك كله الشخصية الفنية للسوري “أبولودور” الدمشقي.. ووفق الدراسات الآثارية الحديثة، يقدر عدد الأعمال التي أنجزها وحققها “أبولودور” خمسة عشر عملاً على الأقل، أهمها: السوق الذي بناه بين عامي ( 108-109م) على سفح رابية الكويدينال، والمعروف باسم “الفوروم التراجاني”.
ويضم هذا السوق فيما يعرف حتى الآن، نحو مئة وخمسين دكاناً، وتشير الدراسات إلى تعدد وظائف هذا السوق، فقد كانت تباع فيه التوابل والحبوب والخمور والزيوت والأسماك وغيرها.. وظل تصميم سوق “الفوروم التراجاني” نبراساً إبداعياً يستهوي المصممين المعماريين في كل العصور، لما يتمتع به من جمال وبساطة، مع الفائدة القصوى من إشغالات الأرض، فضلاً عن خلفيته المعمارية الآخاذة.
كما ينسب إلى “أبولودور”، قوس النصر في مدينة “بيغافتوم”، وأيضاً قوس النصر في مدينة “أنكونا”، ومن منجزاته أيضاً المسرح الموسيقي “اويدون” في مدينة “مونتي جورد يانو” وغير ذلك الكثير.
وتتحدث الدراسات والمؤلفات التي تناولت شخصية “أبولودور” الدمشقي عن النهاية المأساوية لهذا الفنان والمهندس العالمي الكبير، وتجمع في كليتها على أن الإمبراطور “هدريان” اتهم أبولودور بأشياء مختلقة، ونفاه من روما، ثم أمر بقتله، لتنتهي حياة هذا المعمار الدمشقي الذي ولد بفضله العصر الذهبي لفن العمارة والعمران في تاريخ الإمبراطورية الرومانية والتاريخ القديم، وحتى يومنا هذا حيث لا تزل الجامعات والمعاهد في شتى أرجاء العالم تدرس نظرياته ومنجزاته الرائعة، الباقية آثارها شاهدة على ذلك.