بين الموت الجاف والموت البطيء.. «المورفين» رحلة إدمان قاسية تقود طبيباً إلى حتفه
تشرين- راوية زاهر:
(مورفين)، رواية من تأليف الكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف، وترجمة وتقديم الشاعر اسكندر حبش والصّادرة عن دار دلمون الجديدة.
عن العنوان
بداية يستوقفنا العنوان ليأخذنا إلى سبب تسمية (المورفين) بهذا الاسم، وهو المادة المستخلصة من نبتة الخشخاش المخدرة ويؤدي إستخدامها إلى الإدمان السريع ومن ثمّ إلى الموت.. وتعود تسميته إلى “مورفيوس” إله الأحلام عند القدماء..
تسرد الرواية قصة الطبيب (بولغاكوف) الذي وقع ضحية حساسية مفرطة بسبب علاجه لأحد الأطفال باستعماله مادة “خزع الرغامى” ما سبب له نوعاً من الحساسية ولا بديل للمورفين من إخماد هذا النوع من التحسس وتهدئته.. وهذا ما أدى إلى إدمانه.. فروى ما حصل على هيئة يوميات دوّنها، ولم تكن سيرة حياة كما تبدو ولكنها قصة مرض على حدّ تعبيره بخمسة فصول وتقديمٍ شائق..
فيض التفاصيل
وصلتنا تفاصيل الرواية بعدد صفحاتها القليل وفيض الخبايا المعيشية والعملية للعالم السوفييتي في ظل تجنيده للأطباء والعمل في ظروف قاسية، وفي أماكن نائية يعانون الوحدة والعزلة والإدمان أحيانا بقصد أو بغير قصد.
في مكانٍ منسيٍّ لمدة سنتين قضاها طبيب بين الثلوج في الشتاء ووسط الغابات الضامرة في الصّيف دون أن يغادرها يوماً، قضى هذا الطبيب أيامه ولياليه في عمله الطبي المضني في مستشفى متنوع الأقسام.. غادر (بومبغارد) مخلفاً وراءه زميلاً له وهو الطبيب الضحية (سيرغي بولياكوف).. في تلك الليلة التي تذكّر فيه مكان عمله القديم قبل نقله إلى مركز الكانتون جاءته رسالة غامضة تبعث على التشويش والصّداع من الطبيب صاحب قصة المورفين إلى الطبيب المقيم في المقاطعة المنقول إليها بومبغارد في المستشفى التي يعمل بها.
حالة من الهيجان والهلع سببها فحوى الرسالة وهي التي وردت كمايلي:
(١١ شباط فبراير ١٩١٨
زميلي العزيز:
اعذرني بسبب كتابتي لك على هذه الخرقة، ما من ورقة أخرى تحت يدي. أعاني من مرضٍ خطير، من مرض قذر، لا أحد يستطيع مساعدتي في جميع الأحوال، لا أرغب في البحث عن سواك كي يساعدني، أيّاً يكن هذا الشخص. وأطلب منك المجيء لرؤيتي .).
الرسالة الغامصة
لتبدأ حكاية الطبيب مع هذه الخرقة الغامضة والتي جعلت من الطبيب المرسل إليه في حالة تشويش تام وقلق غامض حول طبيعة المرض، ماهيته وإمكانية إنقاذ المرسل.. رتّب الطبيب بوميغارد أمور سفره إلى زميله، واستسلم للنوم بصعوبة ريثما يتجه في الصباح إليه رغم هبوب العاصفة، لكن القدر كان أسرع، إذ وصل الطبيب (بولياكوف) منتحراً إلى المستشفى بعد ساعة فقط من نوم الطبيب بوميغارد، إذ لم يكن مفارقاً بعد للحياة، وكأنّ هدفه إيصال دفتر يوميات مرضه وإدمانه على المورفين لصديقه الموثوق به بوميغارد.. رقد الطبيب المنتحر ليلته تلك في الكنيسة بسلام بعيداً عن الحزن والإدمان وعذاب الضمير ورفيقته (آنا) التي حمّلت نفسها مسؤولية إدمان صديقها الطبيب على المورفين، رقد هناك بعيداً عن الفضيحة وخطورة افتضاح أمره وطرده من عمله..
لتبدأ رحلة المذكرات مُؤرخةً بدقة، ومنقولة بإخلاص وصدق، تمطر القارئ حسرة وعيّنات وخلطات للمورفين، تلك التي كان يعجز الطبيب عن تحضيرها بنفسه واستعانته بصديقته الأقرب إلى نفسه مهددة إياه تارة بالتوقف والامتناع عن هذا العمل.. كان للمورفين عند بولغاكوف أثره في نسيان امرأة كانت زوجته وتعلقه بأخرى كانت خلاصه.
وبدأت تستوقفنا يوميات حزينة يجلبها الصراع النفسي بين الرغبة في الإقلاع وعدم القدرة عليه.
حيث اعتزل معارفه لمدة ستة أشهر مخافة أن تكشفه حدقتاه، وفي الكتاب نصيحة لكل من سيلقى ذات المصير وهي عدم استبدال المورفين بالكوكايين لأن ذلك سيؤدي لامحالة إلى التسمم. والجميل الحزين في الرسالة المرافقة لدفتر يوميات المورفين رسالة مكتوب عليها: “قررتُ ألا أنتظرك بعد، إذ تخليتُ عن فكرة العلاج، لم يعد لديّ أمل، لا أرغبُ في تعذيب نفسي. لقد حاولتُ بمافيه الكفاية.. إنني أحذّرُ الآخرين ليحذروا من المعادن البيضاء المذابة في ٢٥ مكعباً من المياه، لقد وثقتُ بها جداً لدرجة أنها قتلتني. أهديك يومياتي الحميمة، لقد بدوت لي دائماً شخصاً حشرياً، متقبّلاً للشهادات الإنسانية. إن كان ذلك يهمك، فلتقرأ قصة مرضي… الوداع. المخلص. س. بولياكوف.”
أكثر من فن أدبي
انتمت الرواية إلى أكثر من فن أدبي، بدت فيها الواقعية بجلاء من خلال الوصف لكثير من التفاصيل اليومية الدقيقة والمكان. وكذلك حملت شكل الرسائل المطولة المذيلة بالتاريخ والأسماء، كما حملت شكلاً من أشكال السيرة الذاتية، فالطبيب فصّل في علاقاته أيامه، لياليه، معاناته. ونطق ببعض العبارات المؤثرة من قبيل: أن الموت من العطش موتٌ سعيدٌ مقارنة بالموت من المورفين، هو الموت الجاف والموت البطيء.
بين موتين
لنجد صراعاً نفسيّاً ضد المورفين نتيجته تعذيب النفس وإضعافها.. وتجلى ذلك الصراع النفسي أيضاً قُبيل محاولة البدء بالحصول على إجازة والبدء برحلة العلاج، ولكن هول الساعات في تلك الليلة الموحشة التي امتلأت بالذكريات الموجعة بواقعيتها ودقتها وتفصيلاتها، كانت تثير الشجن.. حادثة محطة القطارات في موسكو.. يوم هروبه من العاصمة وشغله لمرحاض المحطة ريثما يحقن نفسه بالمورفين، تلك الحادثة التي أججت حزنه وأفرغت روحه من الكبرياء، لتظهر الدمامل بعدها، والبكاء المر، كان ذلك بعد مرور ١٤ ساعة من الإقلاع، فكان لابدّ من إنهاء هذه المهزلة وكان الانتحار.
كانت اليوميات مليئة بالأحداث والتفاصيل وتُرك للطبيب بوميغارد حرية نشر هذه اليوميات بما حوتها من تواريخ وحوادث ومشاهدات وأمانٍ بيضاء.