«الصندوقُ الأسودُ» لمكبّ النفايات.. من يملك سرّهُ؟؟.. هل النبّاشون ضحايا فَقر أم تُجار؟
تشرين- زينب خليل:
كنا نعتقد أنّ الحكاية التي روتها الدراما عن النباشين في مسلسل “على صفيح ساخن” هي مجرد قصة خُلقت من خطوطٍ درامية على ورق، لربما قد تحملُ الحكايةُ الواقعيةُ للمكبّ خطوطاً أكثرَ من درامية..!!
رحلة القمامة
يجلس (أبو حسام) الذي تخطّى الخامسة والستين من عمره مستمتعاً بشايه الساخن على يمين بوابة مكبّ باب شرقي في دمشق، وهو المكب الرئيسي في العاصمة، الذي تتجمع فيه القمامة من جميع الأحياء السكنية يومياً قبل نقلها إلى مكب آخر في ريف دمشق حيث معملُ النفايات لمعالجتها، عن طريق إما تحويلها إلى سماد أو صهرها ومن ثم تتابع النفايات رحلتها للردم بالطرق الصحية.
نبش وتجارة داخل المكبّ الرئيسي لمحافظة دمشق تحت أنظار عمال المحافظة
وهنا دعونا نعود مشهداً إلى الوراء “مكّب باب شرقي”.
“مهنة مُنظّمة والعمل مأجور”
فورَ دخولكَ المكب تلاحظُ وجود النباشين وسيارات السوزوكي التي يستخدمها تجار المعادن لشراء ما تم فرزهُ من النباشين، أو من مراكز فرز وتجميع البلاستيك الموجودة أيضاً ضمن المكّب، وبيعها لاحقاً لمعامل إعادة تدوير البلاستيك.
وخلال المدة القصيرة التي تواجدنا فيها داخل المكّب، تواجدَ أيضاً عشرةُ نباشين على الأقل، منهم أطفال لم تتجاوز أعمارهم الـ12 سنة، وشباب وفتيات في العشرينيات. من خلال دردشة قصيرة مع مجموعة من الشباب حصلنا على بعض المعلومات التي تخص آلية عمل النباش والمبالغ التقريبية التي يجنيها يومياً.
في حال كنت تتساءل عن المعايير التي تُنظم عمل النبش في القمامة فلا تقلل فهي مهنة مُنظمة أكثر مما كنا نتوقع.
بحسب شهادات الشباب يوجد “متعهد” مسؤول عن هذا المكّب، يأخذ يومياً من كل نباش 75 ألف ليرة إلى 100 ألف مقابل السماح له بالعمل داخله.
ثلاثة ملايين ليرة شهرياً!
وهنا كان لابدّ من السؤال: إذا كانت الأرقام التي ذكرتها صحيحة، فماذا سيبقى لك من هذا العمل؟ لتأتي الإجابة أنه يحصل يومياً على 200 إلى 250 ألف ليرة في حال كانت النفايات غنية قليلاً، يدفع للمتعهد قسم ويحصل هو على صافي الربح الـ 100 ألف، وبحساب بسيط نستطيع معرفة أن ما يجنيه كلُّ نباش شهرياً هو ثلاثة ملايين ليرة بمعدل وسطي، آخذين بالاعتبار عدم وجود أيام عُطل في عمل النبش، هذا يعني أن النباش يحصل على مدخول شهري يساوي 10 أضعاف راتب الموظف الحكومي، وأكثر من ضعفي راتب بعض الموظفين في القطاع الخاص، ما يبرر أيضاً رفض الشباب الذين قابلناهم العمل لصالح الجهات الحكومية كعُمال نظافة في حال تمّ طرح مثل هذه الفكرة بقولهم : ” لا.. النباش أحسن، راتب الموظف ولاشيء”
دخل النبّاش الشهري يساوي عشرة أضعاف راتب موظف حكومي وأكثر من ضعفي راتب موظف في القطاع الخاص
عمالةُ الأطفالِ
لنبتعد قليلاً عن العاصمة وندخل إلى إحدى ضواحي مدينة ريف دمشق، يختلفُ المشهدُ هنا تدريجياً، إذ يغلبُ وجودُ الأطفالِ العاملين بالنبش وكِبار السن على فئةِ الشباب، قد لا يخلو شارع ضيق أو مكبّ صغير من وجود أطفالٍ يحملون أكياساً أطولَ من أجسادِهم الغضة، ومحظوظ منهم من يجرّ عربةً صغيرة يُعلّقُ عليها أكياسهُ، أما النباشون من كِبار السن، فأغلبهم يمتلك العربات الكبيرة التي تساعدهُ على حمل ما ظفرَ به من الحاويات، الشباب والنساء هم الأقل نسبة، ولكنهم الأكثر معدات مثل الدراجات الهوائية والنارية والقفازات و”أضوية” الليزر التي علقوها على رؤوسهم كعُمالِ المناجمِ، يحتاجون هذه “الأضوية” لأنهم يحرصون على النبش بعد منتصفِ الليل وحتى ساعات الفجرِ الأولى، ليسبقوا بذلك سيارات البلدية قبل أن تقوم بجمع ونقل القمامة إلى المكبات الرئيسة. علمنا من أحد أصحاب المحالِ التجارية في حيٍ آخر، أن إحدى السيدات التي تعمل بالنبش قد استأجرت مستودعاً لتجميع المعادن والبلاستيك وبيعهِ لاحقاً دفعةً واحدة.
منح تراخيص لضبط عمل النباشين!!
تواصلنا مع رئيس بلدية تحفظ على ذكر اسمه أو اسم المنطقة، أخبرنا أنه منذ استلامه رئاسة البلدية وهو يحاول أن يضبط هذه الظاهرة، وأن يتوصل إلى اتفاق مع النباشين للحفاظ على النظافة العامة، بعد ورود عدة شكاوى من الأهالي بأن النباشين يتركون الأكياس مرمية على أرض المكّب بعد نبشها من الحاويات، حيث تنبعث منها الروائح الكريهة جداً، ولا يستطيعون الوصول إلى الحاوية بسبب تكدس الأكياس حولها، ليقوم عمال النظافة بجمعها صباحاً.
يُسمح للنباشين بفرز وبيع جميع موجودات القمامة من معادن وبلاستيك ما عدا الكرتون
ذكر رئيس البلدية أنه منح تراخيص لستة مراكز خاصة بتجميع البلاستيك، تُشغّل النباشين ومسؤولة عنهم، بشرط أن تفرض على النباشين أن ينظفوا المكبّ ويعيدوا الأكياس إلى الحاويات بعد نبشها، ومن يخالف سيتم تغريمه بمبلغ يساوي راتباً شهرياً لعامل النظافة.
بطبيعة الحال لن يتساوى نباش في مكّب رئيسي مع نباش في حي سكني، وليس لدينا معلومات تؤكد ما إذا كانت مراكز تجميع البلاستيك تأخذ نسبة من عمل النباش أم إنها تشتري منه المفروزات فقط.
مديرية النظافة في عالم موازٍ..!
بعد محاولات عديدة من التواصل مع محافظة دمشق لتبيان صحة هذه المعلومات والإجابة عن التساؤلات، مدير مديرية النظافة عماد العلي رفض الإجابة أو التعليق على موضوع النباشين، وفضّلَ التهرب بإعطائهِ المواعيد والتغيب المتعمد عن المكتب وعدم الرد. هذه المماطلة التي دامت ثلاثة أشهر، لم تثننا عن طرح هذا الموضوع بل أثارت لدينا الشكوك أكثر حول سبب التحفظ غير المبرر، لذلك نضع بين أيدي المعنيين التساؤلات الملّحة التالية بانتظار الرد :
1- كيف يحصل متعهد ما على استثمار في مكّب معين؟ هل عن طريق مناقصة أم هناك طرق أخرى؟
2- لمن تتبع المراكز الخاصة بتجميع وفرز النفايات؟
3- من يدير عمل النباشين؟
4- لماذا لا تنظم الإدارة المحلية والبيئة عمل النباشين كمهنة، لكونها تعود بأرباح هائلة، وتوفر لهم المستلزمات كالبدلات الواقية والقفازات التي تقيهم من الأمراض نتيجة التماس المباشر مع النفايات الصلبة؟
رفض مُثير للريبة
الواقع أن إحجام مدير النظافة أثار ريبتنا بكل معنى الكلمة، إذ نعلم ويعلم الجميع أن ثمة ” بزنس” اسمه الاستثمار في القمامة، وكنا نصرّ على معرفة مدى علاقة المدير بهذا الاستثمار ورأيه ، بما أن ” النبّاش” مهنة غير مسموحة، وعلى مديرية النظافة ملاحقتهم إن كانت تتابع.
ختاماً: إنّ التعميم في أي قضية كانت هو خطأ فادح، وكما ذكرنا آنفاً ليس جميع من يعمل بالنبش يجني المبالغ نفسها، بتأكيد هناك مَن أتخذَ من النبشِ في القمامةِ مهنةً لهُ، ومَن هم بالفعل بحاجةٍ ماسة لتأمين لقمة عيشهم اليومية.
وإني لأعجزُ عن تفسير غموض صورة أبو حسام يستمتع بطعم الشاي ورائحة أكوام النفايات، مثلما أعجزُ عن تفسير موقف مدير النظافة، على ما يبدو هو أيضاً يستمتع بالاستثمار الجديد.!