حانَ دورُ “التّجربةِ السّوريةِ”
لم يعدِ العالمُ يكترثُ بالسلع المعمّرة، وقد عزفتِ الشركاتُ الشهيرةُ عن إنتاجِ السلع الصالحة للاستخدامات المديدةِ، إن كانت شركات تصنيع السيارات أو الإلكترونيات أو البرمجيات، بالتالي لم تعد ثمة أفكارٌ معمّرةٌ صالحةٌ لكل زمان ومكان، لا في الاقتصاد ولا الإدارة ولا كلّ أوجه النشاط البشريّ – طبعاً لا نقصدُ الثوابتَ القيميةَ على مستوى التراث والمجتمع – ولعل السباقَ اليومَ سباقٌ محمومٌ في الأفكار والتجديد والابتكار.. لأنه باختصار سباق رأسِ مالٍ.
هنا في مثلِ هذه المناخاتِ المتقلٓبةِ والمتبدلةِ باتت رؤى أشهر منظري الاقتصاد غير صالحةٍ للاستخدام الكامل والحرفي حتى في البلدانِ الصناعيةِ الكبرى التي تبنتها وأنشأت اقتصاداتها على أساسها، والواضح أنه تم طردها كأفكارٍ قديمةٍ وترحيلها إلى بلدان العالم الثالث للتجريب واللهو بالجدل والحوار “التناحري” بشأن تطبيقها والتقيد بها كثوابت، تماماً كما تم التخلص من الصناعات غير النظيفة والمعدات الهندسية المستهلكة، فكما هناك مرائب للمعدات “السكراب” أمسينا نعاين مضماراتٍ رحبةً للأفكار السكراب في هذا العالم، وغدتِ العبرةُ على مستوى الشطر الأضعف من العالم، في القدرة على التخلص من “سكراب الأفكار” واستعادة الخصوصية التي هي في الأساس كبصمة الإبهام لاتتشابه بالمطلق، ولايجوز إغفال تبايناتها ولو بتفصيلٍ “ميكروي”بالغ الدقة.
بدأنا نحن في سورية بمحاولة إعادة التقاط ملامح خصوصيتنا، لكن مازال بيننا تيارٌ غيرُ قليل مازال مأخوذاً بتجارب الآخر ويكرر ذات المصطلحات، من التجربة الألمانية إلى الفرنسية إلى الماليزية، وبعضنا حاول استنساخ حتى تشريعات وقوانين تنظيمية من الخارج وإسقاطها على هياكل محلية مختلفة تماماً من حيث البنية، فكانت النتائج قاسية وأحياناً خطيرة بالفعل.
إذاً علينا اليوم أن نبدأ بالتأسيس لما يستحق أن نسميه لاحقاً “التجربة السورية” بما أن معظم التجارب التي أبدينا شغفاً كبيراً بها ظهرت على خلفيات أزماتٍ ورضوضٍ كبرى، وقد تكون روسيا مثالاً مناسباً للقياس، أو رواندا وبعض الاقتصادات الإفريقية الناشئة التي بدأت باعتماد مساراتٍ مستقلةٍ.
التجربةُ السورية تعني الخصوصية السورية بالمطلق، كما تعني خصوصية الظرف وما يقتضيه من إجراءات استدراك استثنائية.. أولم نزعم أننا شرعنا بإعادة إعمار منشآتنا واقتصادنا وبلدنا عموماً..؟ فلماذا لا يزال بعضنا متعنتاً ومتمسكاً بقوالبَ من الواضح أنها غير صالحة أو في غير وقتها على الأقل..؟ هل هو الجهل أم جذوة المصلحة والغريزة النفعية التي تمسي سامةً عندما يجري تعويمها على مصلحة الاقتصاد الكلي؟
لا يجوز أن نبقى في مثل حالة الصخب – التي لا تخلو من شغبٍ متعمدٍ أحياناً- والتي نشهدها اليوم في بلدنا إن في أوساط قطاع الأعمال أو أوساط أكاديمية أو سواها.. وعلينا أن نلاحظ أن الكثير من “إجراءات الدولة” أثبتت نجاحها على الرغم من حملات الانتقاد الصاخبة التي أثيرت بشأنها.
على العموم الأفكار الجديد والخلاقة دوماً جديرةٌ بالعناية والاهتمام والتقدير، والبلدُ بأمس الحاجة للمزيد منها، لكنّ الأفكارَ المستوردةَ أو المستهلكة التي يعيد أصحابها تدويرَها بصوتٍ عالٍ.. ليست إلا تشتيتاً للانتباه وتبديداً للوقت.. ولعلنا لا نملكُ الكثيرَ من الوقتِ لنبدّدهُ.