فليكنْ يوماً للوطنِ فعلاً
لا تُبنى الأوطانُ إلا بأيدي أبنائِها..وهذه ليست مجردَ مقولةٍ جاهزةٍ للتوظيف في المناسباتِ والمهرجاناتِ الخطابية، لزومَ الشدّ المعنويّ واستنهاض الروحِ الوطنية التي من المفترض بدهيّاً أن تكون حاضرةً و متوهّجةً ومتّقدة ومتقدمة في تراتبية أولوياتِ مواطنٍ ومجتمع، لتكون أولوياتِ دولة تالياً.. وهذه إحدى ركائز مفهومِ الدولة الوطنية الحقيقية.
وكم هو حسّاسٌ هذا المصطلح “الدولة الوطنية” ومتطلبٌ وصاحبُ استحقاقات وجهود لترسيخه في أذهان متواليةِ أجيال ثم أجيال، بما أن التاريخ بأبعادٍ متعددةٍ لاينفصل عن الحاضر ولا المستقبل.. ترسيخٌ بأدواتٍ احترافية وإصرار مبرر مهما كان مكثفاً، لأن الأجيال هي الحامل الحقيقي لمعاني الرسوخ والسيادة، وهذه هي الهوية كحامل فردي ومجتمعي للدولة – أيِّ دولة.
كلّ ما تقدمنا بها ليس إسفافاً، بل توطئةٌ لمقاربة ذكرى يوم الجلاء، التي نظنها ذات إلحاحٍ على الاحتفاء في زمن الأزمات أكثر بكثير منها في سني وعقود الاستقرار والاسترخاء، لأن “الجلاء” حاملٌ لكمٍّ هائلٍ من الدلالات والمعاني التي تفرض نفسها اليوم بالإيقاع الصاخب ذاته الذي كان قبل ٧٨ عاماً، بل ربما في مناخٍ أكثر حساسية وخطورة..
مناسبةٌ جديرة بالاحتفاء بصخب أعلى من صخب الأحداث الدولية والإقليمية التي من شأنها تحويل الانتباه وتشتيته عن كامل منظومة القيم المجتمعية والوطنية، والجلاء قيمةٌ ساميةٌ برمزيتها لابمجرد “واقعتها”، لذا فصخب الاحتفاء مشروع بل مطلوب، وإن لم يحدث تلقائياً لا افتعالاً يعني أن ثمة مشكلة بنيوية لابد من التحري والبحث عنها بدأب وعناية فائقة.
فالبلدان التي ليس في تاريخها نقاط علّام مضيئةٌ تحاول اصطناعها وتنصيبها كأيام وأعياد وطنية تحتفي بها لتكون منارة لهويتها على مدى أجيال وأجيال، فكيف الحال ببلد كسورية يحفل تاريخه بوقائع التضحية وملامح المنافحة عن السيادة الوطنية، في كل بضع سنوات قليلة ثمة ذكرى ومناسبة للتفاتةٍ إلى الماضي والوقوف باعتزاز وشموخ أمام أنفسنا وأجيالنا، ليقفوا هم الوقفة ذاتها أمام أنفسهم والأجيال القادمة.. هذه هي الهوية وهذا أساس استمرار الدولة الوطنية التي يعززها أبناؤها بسموّهم فوق أي اعتبار ضيق.
نظن – ولعلنا لسنا مخطئين – أن قطاع التربية هو المضمار الأرحب لوقفة الاعتزاز الواجبة، وبما أن يوم السابع عشر من نيسان يوم عطلة، سيكون السؤال عن عدد المدرسين والكوادر الإدارية في مدارسنا – وجامعاتنا أيضاً- الذين سيبدؤون الحصص الدرسية بمعايدة لمدة خمس دقائق يشرحون خلالها معنى الجلاء ودلالات المناسبة، بما أنه من البغيض والمقلق أن يطالعهم تلميذ أو طالب بالإفصاح عن جهله وعدم درايته بها، وإن حصل يعني أننا أمام خلل يجب الإسراع باستدراكه.
لأن الأوطان تُبنى بأيدي أبنائها فعلاً.. وأبناء هذا الوطن هم نحن، واللاحقون اللاحقون ثم اللاحقون.