من زاويةٍ ما، يحتاج الكتاب المطبوع إلى وضعه تحت «المجهر» ثانية، فما من كتابٍ يولد كاملاً في لحظته، لأن هناك زمناً يسبق هذه الولادة، وهو حتماً طويلٌ نسبياً ولا يمكن تحديده، كما الحديث عن الكائنات الحية التي تمر بمرحلة الجنين وفترة الحمل فالولادة حسب قانون طبيعي صارم ومحدّد المراحل، فكلُّ كاتبٍ لديه مزاج ورؤية وأسلوب حتى في إنتاج كتبه المتعددة، حيث نعرف أن روائياً أمضى عشرين عاماً لينجز رواية ، وأن موسوعياً لم يضع نهاية لموسوعته التي بدأها منذ عقدين من الزمن، وأن بعضَ الكتب تشبه مسوّدةً لم تتمّ مراجعتُها كما يُفترض بكتابٍ يليق به النشر، وبعضَها يبدو متطفّلاً على النوع الذي ينتمي إليه، كالرواية الضعيفة والقصة المحشوّة بالهذر والشعر الضائع في نثر الوجدانيات، ومع ذلك وجدَت مكاناً بين المطبوعات حتى يحينَ وقتُ عرضها تحت فحصٍ جديد مختلف عن فحصِ قارئ «المخطوط» الأول ورضا صاحب دار النشر لإطلاقه في عالم الكتب!
حين المشاركة في الجوائز يتغير «مجهر» الفحص تحت بصر أعضاء اللجنة، إذ يتم تقصي «الأجسام» الصغيرة بتكبيرها على طريقة المخابر العلمية في فحص الكائنات التي لا تُرى بالعين المجرّدة، وهنا يبدو الكتاب نفسه مختلفاً عما كان عليه في «السوق» وكذلك سيبدو تحت مجهرٍ آخر حين الانتساب إلى هيئة رسمية، وكثير من هذه الهيئات تشكلت تاريخياً باسم جمعيات أو روابط قبل أن تتسع تحت مصطلح «نقابة» أو «اتحاد» والكاتب يرغب أن ينتمي إليها! لماذا؟ هناك العديد من الأسباب، أهمّها، كما يبدو لي، معنويّ بما يعني الاعتراف الحاسم بما يكتب ثم نَيل زمالة المكرَّسين ذوي الأسماء اللامعة، ففي العالم المعاصر باتت الأطُر متنوعة بلا حدود، وقد يكون فصلُ عضو من نقابة أو «اتحاد» هو أقصى عقوبة معنوية أو اعتبارية للكاتب، لأنها قد لا تضرّه مادياً ولا شهرةً ولا تمنعه من النشر والانتشار، بل تشعره بالنبذ والتخلي عبر الإبعاد، ونحن لسنا بصدد هذا «المجهر» الذي يكون إيديولوجياً على الأغلب، بل في مستوى المطبوعات التي تُقدم للانتساب، لأن بعضها يكون ضعيف البدن والتكوين بمجرّد الاطلاع عليه بفحص سريريّ سريع، ففيه من سذاجة الأفكار وزحام الشخصيات واختناق الأحداث في سياقات غير مرسومة والأخطاء اللغوية، ما يجعل القارئ يتساءل: تحت أي مجهرٍ مرّ كلُّ هذا؟ وكيف عبر من الورق «الأول» إلى المطبعة وصانعِ الغلاف الذي يجهل قطعاً ما فيه، واكتفى بالعنوان ليعرف ماذا يرسم!
كل هذه الجهود ما كانت لتضيع، لو كان «المجهر» الأول دقيقاً ونقيّ العدسة!
نهلة سوسو
123 المشاركات