من الواقع الملموس بكل حسّيته التي تنتقل عبر البصر والسَّمْع والشمّ واللّمس، عبَر الإنسان إلى عالم آخر هو الخيال، حيث حرّر تلك الحواس من قوانينها، وأطلقها كيفما شاء!
لماذا غيّر الإنسان قوانين الطبيعة في الممالك الجديدة التي رسمها، رغم أن المعطيات المتوافرة لديه هي نفسها، ولم يستطع إيجاد غيرها؟ لا جواب يشفي الغليل والفضول، ففي هذا التغيير كان الشِّعر والمَجاز، وكانت للكون كلِّه روايةٌ تجعل القمر قنديلاً، والمجرّاتِ دروباً أرضية للتبّانة وغيرهم، ثم رُسمت مصائرُ الشخصيات البشرية في «رواية» مستقلة عن الواقع في إهاب مسرحية أو قصيدةٍ أو قصةٍ أو رواية أدبية، والأعظمُ منها كان ذاك المُحكَم بقوانين خاصة بعيدةٍ عن الواقع الصريح، إذ تمكّن هذا الخيال من صنع عالمٍ موازٍ ومستقلّ في الوقت نفسه، ضبَطه بتسميات نقدية، من مثل «التشبيه» و«الاستعارة» و« البلاغة»، وفي ممرات هذه الممالك ومقصوراتها وشرفاتها كانت منافَسات الشعوب في الإبداع الأدبي الذي من أجله نشطت الترجمة ورُصدت الجوائز المجزية، وفي ظلّ هذا كله انتحى الخيال إلى العلم أيضاً، فأمسك بمكتشفاته التي أضنت العلماء بحثاً في عناصر تبدو خاملةً للإنسان العادي، لكنها نشطت في المخابر وعبر التجارب مستهلكةً قروناً من الزمان، ويقال إن العلم لا يمكن أن يخون قاعدةَ واحد زائداً واحداً يساوي اثنين، فهو بهذه الصّرامة الحادة التي لا تترك للنتائج أن تتشكل على هواها، أما الخيال فلا يعرف الأبواب الموصدة ولا الأسوار الكتيمة، لذلك اخترقها، وحاول أن يتجول وراءها ( كان في رسومات ليوناردو دافنشي غير لوحاته الشهيرة، الكثيرُ من «اسكتشات» المخترعات التي عرفتها العصور اللاحقة، وربما هو بذاته لم يعرف الخطوط الفاصلة فيها بين الخيال والواقع، وفي هذه النقطة أيضاً يعسر على الباحث الحياديّ أن يدرك هذه الحدود). هذا التماسّ عرَّفنا على أدبٍ خاص اسمه الخيال العلمي!
ماذا يريد كاتب الخيال العلمي؟ تقريبَ العالم المعقّد من الأفهام؟ تبسيط العلم وتقديمه للقارئ في عصر اكتظ بالمعلومات والاختصاصات ثم الاختصاصات الدقيقة؟ الدخولَ إلى مجالٍ ليس فيه «لاعبون» كثر؟ حثيثاً كان الترويج لمثل هذا الأدب أولاً بالكتب المنشورة وثانياً بالمجلات المتخصصة، خاصة حين لم يحصر نفسه في التوجه إلى الأطفال، حيث العالم المفضل للخيال كله، بل كتب للكبار، من دون أن يغادر خطّ الوعي البشري الأول الذي حاول اكتشاف أسرار البحار والأفلاك وبطون الكهوف (مررت في قراءاتي لبعض روايات الخيال العلمي، على هذه الأمكنة تحديداً، إضافة إلى عبوري على أسرار النبات أو البدن البشري)!
في إحصائية بسيطة، يبدو كتّاب الخيال العلمي قليلين جداً بين كتاب الأدب، لكنهم يواصلون مشروعهم، ويشقون طريقاً لمن يحب هذا اللون الأدبي ويقرؤه.
نهلة سوسو
123 المشاركات