أفران التنور.. «مناقيش ومحمّرة» وخبز ساخن وحضور شهي في وجدان من يعرفه
تشرين:
في طريقك إلى الساحل السوري الجميل ربما توقفت لتأخذ استراحة قصيرة على جانبي الطريق، ستجد قرى جميلة وسترى أفران التنور تحت ظلال شمسية من القصب.. هي مصدر رزق ومشروعات صغيرة لسيدات ريفيات أتقن صناعة الخبز الشهي الذي لا ينساه من يتذوقه ولا يغيب عن الذاكرة بطعمه اللذيذ ورائحته المميزة.
“مسعد يا تنور.. يما ليلة، مسعد يا تنور.. يا مجمع الزينات، مسعد يا تنور”… بمجرد ترديد كلمات هذه الأغنية من التراث الشعبي السوري على مسامع أناس من عهد الآباء والأجداد تعود بهم الذاكرة إلى أزمنة كان للتنور فيها حضور شهي في وجدان من عرفه، وركن لا غنى عنه بالبيوت والدُور العربية على امتداد رقعة الأرياف قصرت أم بعدت مسافاتها، في ذلك الوقت كان لخبزه الساخن طعم لا يعرفه جيل “الكيك” والوجبات السريعة.
نعم، تغيّرت الحياة إلى أبعد ما نتصور، فالتكنولوجيا وآلات الطهو الحديثة وفرت كثيراً من جهد لا تستطيع نساء اليوم تحمل أعبائه.
منذ بزوغ الشمس، تعكف السيدات على عجن الطحين وتحضير الحطب الذي يبتلعه التنور، في روتين يومي تعكف عليه المرأة منذ عقود طويلة حينما كانت بمقتبل العمر.
خبز بطعم التآلف
الجلوس لصناعة الخبز في الريف حين تتحلق الريفيات حوله، طقس يشبه تجمعات نساء المدينة فيما يسمى “جمعة الصبحية”، فهي جلسات مخصصة لتبادل الأحاديث بكثير من المتعة عن حوادث الحياة، والريفيات ما زلن يمارسن طقوسهن منذ عرف التنور طريقاً لبيوتهن.
يقصصن سيراً وحكايات قد تتسع لأبعد من جبال وسهول خضراء تحيط بهن، لعل وقتذاك يعد الحديث عن مد سكة (تورماي) القطار أو جسم حديدي يطير بالسماء يطلق عليه الطائرة، فيه كثير من الإثارة في خيالهن، بينما ركوب الحافلة كان أقصى ما يتمنين.. كل ذلك يحدث وهن يصنعن قوت يومهن الساخن، ويكملن النهار بين الحقول والبساتين ويساندن الرجال.
يختصر الباحث في التراث فؤاد ربيعي الحديث عن التنور بأنه “خبز بطعم التآلف والمودة”، وعلى رغم تبدل الأحوال هذه الأيام فإنه من العادات الاجتماعية الأصيلة التي ما زالت باقية ومتجذرة، ويشرح في حديثه عن تكوين التنور بأنه مصنوع من الصلصال، ويتشكل على هيئة وعاء فخاري يتركز على قاعدة حجرية بشكل مائل، ويوضع في داخله الحطب والوقود الذي يشعل التنور.
وأردف: “ارتفاعه نحو 20 سم وسماكته بحدود بين 3 و5سم، بارتفاع لا يتجاوز المتر الواحد، وللفخار أحجام وأغراض مختلفة في حال صنع لأغراض تجارية أو مخصص للمنزل، ويتجاوز استخدامه لأغراض صناعة الخبز، بل يمكن طهو الطعام بداخله، فهو صحي ومفيد”.
مشروع صغير
خرج التنور بحرارة ووهج ناره المتقدة من دائرة ضيقة في المنازل القروية إلى أن أصبح على ندرته مصدراً سياحياً مهماً عرفه الشارع السوري في أماكن اشتهرت بالسياحة الشعبية الداخلية كاللاذقية وطرطوس وريف دمشق وحلب وعدد من المدن الوسطى التي يقبل عليها السياح.
وهو من المشروعات المتناهية الصغر التي يحاول أصحابها وأغلبيتهم من النساء المتقنات لصناعة أرغفة لذيذة، عدم هدم ما كسبوه من سمعة، فقد اشتهرت كثيرات من صانعات خبز التنور في رأس البسيط واللاذقية وجبلة وطرطوس بخبز الجدات وصنعهن “المناقيش” وهي الأرغفة المحشوة أو المطلية بمواد “الجبن والمحمرة والزعتر” أو تلك المصنوعة من اللحمة أو السبانخ، أو بالقشدة وغيرها.
وعلى الطريق العام بأطراف مدينة اللاذقية تجد السيدات الريفيات قد بدأن منذ الصباح بـ” صناعة “مناقيش” الزيت بالزعتر لعدد من المسافرين، من خلال مشروعاتهن الصغيرة التي تحتوي على التنور ومقاعد مع طاولة صغيرة، “لا يستطيع أي أحد من الرجال أو أي سيدة صناعة الرغيف، فهو ليس بهذه السهولة، إنه يحتاج إلى إضافة المحبة ليكون ذا مذاق طيب”.