«أيمن الدقر».. رحيلٌ يطوي سيرة الأشدّ صخباً والأكثر تنوّعاً
تشرين- سامر الشغري:
عندما يصل منجل الموت ليحصد أرواح المبدعين الأكثر صخباً والأشد تنوعاً، والذين لم يتوقفوا طوال حياتهم عن العمل والعطاء وفي كل الاتجاهات، يعني ذلك أننا في حالة استهداف فكري ونزيف معرفي، يستنزف أجمل ما فينا وهو الإنسان.
كان أيمن الدقر الذي رحل عنا في الأمس واحداً من أكثر المبدعين تدفقاً وتنوعاً، ولم يترك حيزاً للإبداع إلا وترك فيه بصمته، وكان الأكثر إثارة للجدل بكتاباته ومواقفه، فكتب ولحن ورسم ونظم وأقام وأدار، لتختزل هذه «الأفعال الستة» حياته المحمومة المتزاحمة.
ربما كان رفاق الدقر في الفن التشكيلي يتمنون لو قصر إبداعه على اللوحة فقط، ولم ينطلق ليلاحق مسارات إبداع أخرى، ولكن لا أحد يقول للنهر أين يسير وكيف يتدفق، لقد قال الدقر كل ما يريده على الورق الأبيض عبر مجموعتين أو ثلاث من الأعمال، ولاسيما مجموعته التي استوحاها من قصائد نزار قباني، أو التي أطلق عليها اسم شآميات، ولقد ظهر ميله للغرافيك ممزوجاً بتقنيات مشغولة من الإكريليك ليكسر خلالها نمطية لوني الحفر الأساسيين الأبيض والأسود.
شغف الدقر بملك الألوان وبأصلها أخذه معه عندما عمل في الصحافة، وترأس تحرير أول مجلة سياسية سورية خاصة منذ عقود، إذ حاول كثيراً أن يجعل من مجلة ( أبيض أسود) منبراً إعلامياً فريداً يوفر هامش حرية أوسع ويقدم أفكاراً من خارج الصندوق، وكان إنجازه الأبرز في هذا السياق ملف الأحزاب السورية المعاصرة، الذي كان صادماً بما وثق له من معلومات وحقائق، عن هذه الأحزاب وخلافاتها وانشقاقها عن بعضها.
والدقر أيضاً كان واحداً من الفنانين التشكيليين الذين أداروا صالات العرض، والتي غدت ظاهرة غذت الحراك الفني في سنوات الحرب، فكانت صالة أدونيا التي اشتقت اسمها من أدونيس، وتعني الاحتفالات المقامة إحياء لذكره في فترة الحصاد، وقد احتضنت الصالة عشرات التجارب المتنوعة لفنانين واعدين ومخضرمين أمثال: رندة تفاحة ومحمد زيدان وكرم نظامي ومحي الدين حمصي ورولا نويلاتي وأيمن حميرة والراحل فداء منصور الذي أطلق تجربته الدائرية من خلالها، ولم يقتصر نشاط الصالة على المعارض، بل تعداه إلى إطلاق مبادرات خاصة أو مشتركة، حول رعاية مواهب جرحى من الحرب أو الأطفال.
وفي فضاء الكتابة أطلق الدقر العنان لموهبته، فهي لم تقتصرعلى كتابة الزوايا الصحفية والتي طالعنا من خلالها كمحلل سياسي رصين ومتمسك برأيه ومدافع عن وطنه لأقصى درجة، بل كتب مسلسل (حارة المشرقة) الذي أنتجته المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني سنة 2015 ، تحت عنوان حارة المشرقة من بطولة الفنانة سلاف فواخرجي، وكان العمل جريئاً جداً لأن البطلة امرأة متحررة تلهث وراء الثروة والمتعة من دون أن تضع لنفسها أي قيود، وكان لافتاً أن الدقر الذي يتقن العزف على آلتي العود والكمان لحن أغنية شارة المسلسل، وهي من تأليف الشاعر الراحل حسين حمزة.
ولم تات كتابة الدقر لهذا المسلسل من فراغ، لأنه كتب في سنوات السبعينيات وهو لا يزال طالباً في كلية الفنون الجميلة مسرحية غنائية اسمها (سلطان بالزور) في تجربة لافتة من نوعها، ولحن أغانيها، وتدور قصتها حول أهل مدينة يموت ملكهم فيقررون تنصيب أول غريب قادم إليهم، وكانت المصادفة أن هذا الغريب كان لصاً هارباً من سجن مدينة أخرى.
تجربة الدقر المتعددة الأمداء والتي جعلته يشغل منصب نقيب الفنون الجميلة في ثمانينيات القرن الماضي، ستظل استثناء يكسر القاعدة التي تقول بعجز المبدع عن أن يكون إدارياً ناجحاً، بدعوى أن الإبداع الفردي لا يلتقي مع العمل الجماعي وروتين الإدارة، ولكن الدقر حقق هذه المعادلة، فكان بمنزلة دينامو المشهد الثقافي السوري، الذي بعد أن توقف يحتاج لمن يضخ فيه أفكاراً ومبادرات جديدة، كما كان يفعل فناننا الراحل.