«نتالي دليلة» تغوصُ في عالم لا وجود فيه «للمرة الأخيرة لضحايا اللعنة الأولى»
تشرين- راوية زاهر:
«ميرينا لاترى الضوء» رواية للدكتورة نتالي دليلة صّادرة عن اتحاد الكتّاب العرب، ترصد خلالها الكاتبة أحداثاً شملت بلدة «ميرينا» شمال شرق اليونان مابين جامعة «كريت ومحطة القطار والبلدة» في مدة زمنية تتجاوز العشرين عاماً.
تدور أحداث الرواية حول شخصية محورية وهي (ميرينا) ذات العشرين ربيعاً، وعلى المقلب الآخر للأحداث شخصية والدها (باول) الغارق في تقديس ابنته، والذي تحوّل بسبب ولهه بها إلى سارقٍ ومقامرٍ وسجينٍ لينتهي به المطاف قتيلاً على أروقة حظّه العاثر.. أما شخصية (آريس) فكانت شخصية متخيلة أثرت في مجرى الحدث الروائي، فكان حبيباً كفيفاً متخيلاً عند ميرينا، والذي جعلنا نتيقّن أن الرواية سلكت في بنائها منهجاً خاصاً أبعدها عن سمات وخصائص الرواية التقليدية وجعلها تميل إلى الرواية النفسية، إذ إنها تتكئ في بنائها على ما يساعد الروائي في إضاءة دواخل شخصيات روايته.
«ميرينا» الفتاة التي حصلت على منحة مجانية إلى «جامعة كريت» برفقة تسعة وتسعين طالباً، لتبدأ وجودها هناك بكذبة دفعت ثمنها نفسها وسكينة والدها وروحه وأطرافه من أصابع وذراع.. فكذبتها كانت أنها غنية وابنة تاجر في الملاحة البحرية، ولكن ملابسها الرثة وهيئتها تناقض ادعاءاتها، لترضى بما يشاع عنها بأنها (قذرة) ورافضة قبول سيمة الفقر.. وادعاءاتها كانت بهدف التغطية على حالة الفقر المدقع والجوع الذي كانت تعانيه، راغبة في الحصول على القبول والتقدير والحب، وماخفي وراء هذا وذاك من اضطرابات نفسية جعلتها تتنكر لوالدها وتخجل به دائماً، وتشعره بدونيته، وتسبب له آلاماً نفسية مبرّحة بتحميله مسؤولية تعاستها وحزنها وعوزها، وهو يحاول مراراً أن يلبي لها شيئاً من رغباتها، ومن هنا بدأت اللعنة الأولى بسرقة صاحبه الطّيب، ومن ثم سرقة نساء في المحطة يعانين حالات إنسانية قاسية، ليتبعها بعد كل سرقة بجلد ذاته التي تضعف أمام طيف ميرينا، فولهه بها وسيطرتها على عمق خلاياه جعلاه شخصية مهشمة الكنه.. فـ«باول» الأب العاشق لروح ابنته، المضحّي، الضعيف أمامها، المشغوف بها وقع صريع أناه العاشقة لها وضميره المتخم بالعذاب.
ولكن شعورها بالخزي والعار بسبب رداءة حضوره ومظهره زاد تعقيد الحدث وهوّة الأسى النفسي، فمن أجل معطفها ذي الماركة المشهورة الذي اشتراه بعد سرقة حقيبة صديقه يفقد فردة حذائه مقايضة مقابل ثمن تذكرة القطار لعابثين أرادوا أن يلهوا، ومن ثم قطعه إصبعيه قصاصاً وعقاباً لنفسه التي سرقت مال (أماليا) التي ادخرته لملاقاة زوجها المريض على فراش موته، وهذا قد يبرّد له سعير ضميره، وتتوالى السرقات الثانية والثالثة، وبعد كل سرقة يطهر نفسه ببتر جزء من أطرافه، وهكذا بدا ممزقاً، حزيناً، مشوهاً.
وبسبب تهمة (قذرة) ارتضتها ابنته لنفسها مقابل فقيرة، استغل أحد الأشرار محاولة الأب إثبات نظافة ابنته بأخذ عابر سبيل يثبت أنهم يتمتعون بنظافة تامة، وإن كان الحال غير ذلك؛ يقامره على مقطورته العفنة فتكون له.. وهكذا غدره هذا الماكر وسرق مقطورته، وبقيت العائلة بلا مأوى، لتكون الكلمات المنهالة على الوالد من قبل ابنته التي فقدت موطنها أشد ألماً من وقع السياط..
وتتوالى الأحداث لينتهي الحال بالوالد باختيار ضحية للسرقة، وكما عادته يختار بشكلٍ خاطئ، وقد كان جنرالاً له باع طويل في شبكة اختطاف وقتل، وينتهي به المطاف صريعاً على يديه.. تقدمت الأحداث وفق تسلسلها الزمني، متداعية في ذهن البطل وغيره من شخصيات الرواية، وقد أشارت الأحداث الروائية إلى حالة التأزم النفسي عند البطلة في أكثر من مكان: الاستمرار في الكذب، والصراخ الذي يعد سلوكاً ارتدادياً لحالة الاشمئزاز الذي كان يصيبها من هيئة والدها وشدة فقره، فيدفعها ذلك إلى ملء مقطورة القطار صراخاً قائلة: إن هذا المعتوه ليس والدها في حالة هستيرية مروّعة ورغبتها في الابتعاد عن مجالسته. وكذلك اكتشافنا أن (آريس) شخصية متخيلة في عقلها الباطن، خلقتها ورافقتها وكشفت عن سرائرها أمامها في تداعٍ نفسي مقنع استطاعت الكتابة أن تجعل وجوده ينطلي على المتلقي.. أما التأزم المتصاعد عند الأب فكان جلياً في معاودة كرّة السرقة تحت ضغط العوز والفقر وإرضاء ابنته.
فالأحداث المسجلة في ذهن الشخصيات وتعديلها في عمليات الوعي تزيد المشاهد تشويقاً وتعدّل من دورها في رصد الأحداث الخارجية.
وفيما يتعلق بالحوار ؛ فقد غلب المونولوج الداخلي على عملية السرد الروائي، فالروايات التي تتبع للمنهج النفسي أكثر ما يخدمها هو هذا النوع من الحوار الذي تبقى الأحداث فيه حبيسة الذات بأبعادها السيكولوجية والاجتماعية.. بينما لم يأت الوصف ترفاً لغوياً بقدر ماكان خادماً للكشف عن خصائص الشخصيات وسماتها، وعمق مأساتها.. فالغلو في وصف تفاصيل الفقر المتمثل بالمقطورة، ورمي الفتاة بقشور الموز والقمامة في رفع حدة التنمر إلى أعلى مستوى، يعكس حالة الهشاشة المروعة لنفسية ميرينا.. وكذلك المبالغة في وصف ثيابها التي فقدت ألوانها، وأقدام والدها الغارقة في نزوفها وقروحها.. ماهي إلا تعبيرعن حجم التضحية والمعاناة، لتبرز الرموز بدلالات معنوية خاصة، فاللون الأصفر الذي حرصت الكاتبة على ذكره والذي لم تتكشف خيوطه حتى الجزء الأخير، إذ هو لون الوالدة المفضل والتي احترقت بفعل حريق من صنع الفتاة وهي صغيرة، وفقدان الوالد ماله وحبيبته وحياته، وبقاء ميرينا التي لم يقدرعلى تفتيت لغز الحياة معها، وأحرف كلمة ( ش ك ر ا) التي عجز علم لسانيات اللغة عن فك شيفرة عمق الحب الذي حمله باول لميرينا.. فشكراً مكررة لشكر الخالق على هذه الِهبة.
ولكن كان وداعه مجلجلاً غير متقّل وراه فقدان حبيبها المفترض.
وأما رمز الانتحار؛ فهو سلوك تكررت محاولات القيام به في الرواية، وماهو إلا تعبير عن انكسارات وخيبات نفسية تؤكد عدم تقبّل الشخصيات للواقع المعيش،
وهو معادل موضوعي للتأزم النفسي المتصاعد في الرواية.
أما اللغة؛ فجاءت قوية، إذ تلاءَم المعجم اللغوي مع المادة السردية، فترافقت مع مفردات الإدمان والتعلق والانتحار المناسبة للحالة السيكولوجية للشخصيات..
والرواية ترصد حجم الظلم الذي يتعرض له الآباء رغم كل محاولاتهم لإسعاد أبنائهم، والمعاناة والفقر الذي يترك ندوبه كالحروق على أجساد ضحاياه..