رواية تظل ناقصة.. التحوّل العالمي من الاقتصاد البني إلى الأخضر

تشرين:

كارثة بعد أخرى وما يحدث يؤكد أن الاقتصاد الأخضر يجب أن يوسع نطاق تمدده في العالم، فالإنسانية تزداد يقينا بأنه السبيل للتوفيق بين استدامة النمو وحماية البيئة. صحيح أن السرعة تتزايد في الآونة بالتحول وتخفيف المخاطر البيئية الناجمة عن الاقتصاد البني.. الا أن الكثيرين مايزالون مترددين وغير مقتنعين..!

ويلجؤون إلى حلول تعتمد تقنيات الذكاء الصنعي والتحول الرقمي، لكن الكوارث والخطورة لاتزال عالية ويرى البعض أن ذلك مجرد رد فعل على ردود أفعال الطبيعية ضد الاقتصاد البني “الحرائق، الفيضانات، المجاعات، الأمراض…”، فهل يكون الإنسان أشقى المخلوقات على وجه الأرض بسبب سوء صنعه، المعطيات والبيانات تشير أن المستقبل لا محالة للاقتصاد الأخضر وهذه حقيقة ساطعة أمام البشر إلا أنهم يصرون على العناد والتجاهل.

وفي الحقيقة تعد مساعي التحول من “الاقتصاد البني” نحو “الاقتصاد الأخضر” صورة من الصور التي تؤكد بأن “الاقتصاد علم البدائل”، فمصطلح الاقتصاد الأخضر الذي ظهر، لأول مرة، في تقرير بعنوان “خطة عمل لاقتصاد أخضر” أعده خبراء اقتصاديون في 1989، أعقبه تقريران آخران – جاءا في شكل خطة عمل – للمجموعة ذاتها، الأول، بعد عامين، بعنوان “تخضير الاقتصاد العالمي”، والثاني، في 1994، بشأن “قياس التنمية المستدامة”. قبل أن يصبح، ابتداء من 2008، في قلب النقاش العالمي، في سياق البحث عن بدائل لأزمة الانهيار الاقتصادي.

رواية تظل ناقصة في نظر الكثيرين، لكون الاهتمام بالموضوع أقدم نسبيا من هذا التاريخ، فأصول الاقتصاد الأخضر مرتبطة بالمؤتمر الدولي حول البيئة الإنسانية، المنظم في حزيران (يونيو) 1972، في العاصمة السويدية ستوكهولم، بناء على اقتراح من المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة، لحماية البيئة من المخاطر المتفاقمة. فمن حينها ونطاق الدعوات نحو “الخضرنة” يتسع في العالم، مع توالي المطالب بضرورة تغيير أنماط الاستهلاك غير المستدامة.

أيا تكن السردية الصحيحة بشأن جذور المفهوم، فالمؤكد أن اتساع دائرة الاهتمام بالمفهوم في الأركان الأربعة للعالم، انطلقت في الربع الأخير من 2008، مع إطلاق الأمم المتحدة مبادرة الاقتصاد الأخضر GEI بهدف تشجيع الاستثمار في القطاعات الخضراء، ودعم السياسات الرامية إلى تحويل القطاعات الملوثة إلى صديقة للبيئة.

شكل تقرير “صفقة جديدة خضراء عالمية” GGND، الصادر في نيسان (أبريل) 2009، عماد المبادرة الأممية، بما تضمنه من إجراءات وسياسات تحفيزية من شأنها التشجيع على استدامة الاقتصاد العالمي. في 2010، وتحديداً في شباط (فبراير)، سيقر المشاركون في المنتدى البيئي الوزاري العالمي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة بأن الاقتصاد الأخضر “يمكن أن يعالج بشكل كبير التحديات الحالية، ويوفر فرص التنمية الاقتصادية والفوائد المتعددة لجميع الدول”.

الاقتصاد من البني إلى الأخضر

تفيد الأرقام بأن حجم الاقتصاد العالمي قارب خمسة أضعاف ما كان عليه قبل نصف قرن فقط، ما أسهم في رفع مستوى العيش لفئة عريضة من سكان الأرض. لكن هذه الثمار لم تكن مجانية، فالتقارير تفيد بأنها كانت على حساب النظم البيئة التي شهدت تدهورا، فضلا عن تنامي المخاوف من اندثار قائمة من الموارد في القادم من العقود، نتيجة الإفراط في استهلاكها حاليا. فقد شهد الربع الأخير من القرن الماضي مثلا تدهورا في السلع والخدمات التي تستند إليها الأنظمة البيئة على مستوى العالم، ونتيجة لذلك تسجل 19 مليون حالة وفاة مبكرة سنويا.

عززت هذه المحاذير من الاهتمام باقتصاد يجعل البيئة مركز اهتمامه، بالدفع نحو الاستخدام الأمثل للموارد، ورفع كفاءة المصادر الطبيعية. فضلا عن العمل على استيعاب جميع الفئات الاجتماعية المهمشة والمتضررة من تدهور البيئة. فتعاقب الأزمات في وقت قياسي، الأزمة المالية والأزمة الغذائية ثم الأزمة المناخية، فرض التفكير في بدائل تتعدى الإنتاج القائم على الكم في الاقتصاد التقليدي “الاقتصاد البني” نحو إنتاجية محورها الأساسي الكيف الاقتصاد البديل “الاقتصاد الأخضر”.

لا يقدم الاقتصاد الأخضر نفسه بديلا عن التنمية المستدامة، وإنما هو مكمل لها. فالالتزام بقواعده مفتاح المشكلات التي تؤرق أكثر من دولة من إجهاد مائي وأمن غدائي وهجرة مناخية… وغيرها من المخاطر التي تضع الإنسانية أمام معادلة كونية غير “قابلة للحل”، ورددت الألسن بأن البشرية مجبرة على الاختيار: إما الاقتصاد والنمو وإما الطبيعة والبيئة. قبل أن ينبثق الاقتصاد الأخضر مقدما حلا لهذه المعضلة المؤرقة، إذ بات بمقدور البشرية في العصر الراهن السعي، بثقة وثبات، في مسار التنمية، دون أن يكون ذلك على حساب بيئة ورفاهية الأجيال المقبلة.

تبقى القدرة على الاستيعاب أقوى نقط قوة الاقتصاد الأخضر، فعلى الرغم من سعيه إلى تجاوز أعطاب الاقتصاد التقليدي، ظل الاقتصاد الجديد محافظا على مبدأي الرفاهية واقتصاد السوق القائم على المنافسة، فلم يدع إلى تعديله أو التراجع عنه. بل عمل جاهدا على دعمه، بمختلف الطرق المتناغمة مع حماية البيئة، مثل الاستثمار في الزراعة العضوية وتدوير النفايات والتجارة المحلية والسياحة القروية… وغيرها من الأنشطة التي تضمن الاستقرار وتسهم في تحريك الدورة الاقتصادية.

الاقتصاد الأخضر يتمدد حول العالم

عاما بعد آخر، تتسع رقعة الاقتصاد الأخضر في العالم، ويتوقع أن تتعزز أكثر مستقبلا، فالخبراء يتوقعون أن يسهم هذا الاقتصاد بأزيد من 12 تريليون دولار بحلول 2030، موفرا فرص عمل مرتبطة به لنحو 380 مليون شخص. كما أن هناك ثلاثة آلاف شركة عالمية لديها ارتباط به، وتمثل السلع والخدمات الخضراء قيمة سوقية تقدر بنحو 6 في المائة من الاقتصاد العالمي. وشكلت جائحة كورونا سببا إضافيا دفع إلى البحث، بجدية ومسؤولية، عن اقتصاد أكثر انسجاما مع البيئة. لدرجة أن مراقبين اعتقدوا أن “الوقت قد حان لأن يتبوأ الاقتصاد الأخضر، مكانة أكثر بروزا في قيادة الاقتصاد العالمي، مع ضرورة وضع خطط دولية متكاملة لدفع الاستثماريات في هذا المجال.

تفيد الأبحاث بأن القطاع نما بقوة، في العشرية الماضية، فما بين 2009 و2019 سجل معدل نمو سنوي يقدر بنحو 8 في المائة، متجاوزا بكثير الارتفاع في سوق إجمالي الناتج العالمي التي ارتفعت خلال الفترة نفسها بنحو 2،6 في المائة. تعد طائفة من الاقتصاديين أن هذا الاقتصاد يقود العالم نحو استثمارات نوعية بمئات المليارات من الدولار. عكس عائدات الاقتصاد البني ذي التكلفة المرتفعة جذا، فعلى سبيل المثال يسبب تلوث الهواء المتأتي من الإنتاج الصناعي في أوروبا، أضرارا بيئة تراوح قيمتها ما بين 280 مليارا و430 مليار يورو.

وكشف تحليل آخر عن هذا الاقتصاد، نشر 2019 بأن نحو 27 في المائة من الإيرادات التي حققتها أكبر 500 شركة أمريكية، و31 في المائة من الإيرادات المحققة من قبل 1200 شركة عالمية تأتي من قبل الاقتصاد الأخضر. وعلى صعيد العالم، هناك أكثر من ثلاثة آلاف شركة عالمية لديها ارتباط وثيق بالاقتصاد الأخضر. تأتي الولايات المتحدة، في مقدمة الدول التي تمتلك أكبر اقتصاد في العالم، لاستحواذها على 37 في المائة. متبوعا بألمانيا التي تبقى ثاني أكبر سوق أوروبية استثمارا في مجال الطاقة المتجددة، وذلك نتيجة الحرص على تجاوز المشكلات بتعويض الموارد غير المستدامة بأخرى نظيفة ومتجددة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار