بعد ازدياد أرباحها.. سوق الخدمات المصرفية الرقمية هل تحيل البنوك التقليدية إلى التقاعد؟
تشرين- رصد:
هل تقبل فكرة إيداع أموالك في البنوك الرقمية؟ أم مازلت تفضل الذهاب الى المصارف التقليدية وحمل بطاقتك المصرفية ودفتر الشيكات في جيبك؟
عند الحديث عن تعرض القطاع المصرفي لأزمة ثقة، أو إن بنكاً من البنوك يواجه خطر الإفلاس، أو إن المودعين في أحد البنوك يقومون بسحب ودائعهم نتيجة انتشار معلومات سلبية حول الوضع المالي للبنك، فإنّ الصورة التي تحضر في الأذهان ستكون طابوراً طويلاً من الأشخاص يقفون خارج المقر الرئيس أو الأفرع المختلفة للبنك لسحب أموالهم.
تلك الصورة تغيب تماماً عندما نتحدث عن البنوك الرقمية، وخاصة البنوك التي تعمل بالكامل بشكل رقمي، حيث لا يوجد لها مقرٌّ رئيس أو أفرع يمكن للعملاء التوجه إليها لسحب أموالهم في لحظات الأزمات.
قبل الحديث عن البنوك الرقمية والبحث في مستقبلها، وقبل أن نتساءل إلى أي مدى تعد تلك البنوك بمنزلة تهديد حقيقي للاستقرار المالي أو داعم له، وخاصة أن التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي تلعبان دوراً رائداً في عملها يجب أن نشير إلى أن التغريدات على موقع تويتر التي احتوت معلومات سلبية بشأن بنك “سيلكون فالي”، الذي أعلن إفلاسه في الولايات المتحدة أخيراً، كانت كفيلة بسحب المودعين 40 مليار دولار أي 23 في المئة من إجمالي ودائع البنك في غضون ساعات، وقد أدى ذلك – وبالطبع عوامل أخرى إلى انهيار سريع للبنك – في المقابل فإنّ “واشنطن ميوتشوال” أكبر اتحاد مدخرات وقروض في الولايات المتحدة الذي انهار 2008 تطلب الأمر تسعة أيام ليخسر 17 مليار دولار أي 9 في المئة من ودائعه، حيث لم يكن للوسائل الإلكترونية أي تأثير كما هو في الوقت الحالي.
ويقول الخبير المصرفي أنس نغنغ: تؤكد الدراسات المصرفية العالمية أن البنوك التقليدية تتمتع بعدد من الأصول والجوانب الأساسية التي ترتكز عليها، و سيتطلب ذلك من البنوك الرقمية عقوداً من العمل المتواصل حتى تستطيع الاستحواذ عليها، أولاً البنوك التقليدية لديها قبول طبيعي من قبل المودعين، فالجانب النفسي للمودع يتطلب أن يرى مقراً للبنك وأن يكون له فرع بجوار منزله، ودائماً – خاصة كبار السن- في حاجة إلى التفاعل وجهاً لوجه مع موظفي البنك، وفي الأغلب وبمرور الوقت تنمو علاقة إنسانية بين موظف البنك والعميل، و يجب عدم الاستهانة بهذا الجانب، إذ تمنح تلك العلاقة العميل شعوراً بالأمان، لأن تلك العلاقة تمده بآخر أخبار البنك وإذا ما كان يواجه صعوبات أم لا، كما أنه يحصل على نصائح مالية غير مدفوعة الثمن من موظفي البنك بعد أن توطدت العلاقات بين الطرفين، كما أن البنوك التقليدية لديها بنية تحتية قوية تتمثل في كم البيانات التي تحتفظ بها لعملائها”.
وبذلك يعتقد الخبير المصرفي نغنغ أن المنافسة بين البنوك التقليدية والرقمية ليست هينة وبسيطة كما يعتقد البعض وأن التكنولوجيا الحديثة على الرغم من أنها تصب في مصلحة البنوك الرقمية فإنّ البنوك التقليدية لديها تراث يجعل عديداً من المودعين يفضلونها على البنوك الرقمية، ثانياً ما يشير إليه البعض بـ”البنوك الرقمية البحتة” وهي البنوك التي تعمل بالكامل عبر شبكة الإنترنت ولا يوجد لها مقار يمكن للعميل زيارتها، فإنها تتمتع بالسرعة والرشاقة والمرونة الفطرية لشركات التكنولوجيا الحديثة، لكنها لا تتمتع بعد بالثقة ومعايير الأمان التي يطالب بها المودع، وتجربة تلك البنوك لا تزال في مرحلتها الأولى وسيتطلب الأمر فترة زمنية طويلة لتصبح لاعباً بارزاً في النظام المصرفي الدولي.
تلك المقارنة البسيطة تكشف عن دور مهم باتت تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في تحديد مصير البنوك ومن ثم النظام المصرفي ككل. ويزداد هذا الدور خطورة في البنوك الرقمية. فما هو البنك الرقمي؟
وفقاً للتعريف المتاح على موقع سانتاندر بنك، فإنه تجمع الخدمات المصرفية الرقمية بين الخدمات المصرفية التقليدية والإنترنت، حيث يوفر خدمات مصرفية منتظمة، لكن على موقع ويب أو تطبيق جوال.
مع هذا لا يتحمس البروفيسور أستاذ البنوك والنقود في جامعة لندن لهذا التعريف ويصفه بعدم الدقة.
وحسب تقارير اقتصادية فإن “هناك بعض الاختلافات بين الخدمات المصرفية عبر الإنترنت والخدمات المصرفية الرقمية، الأول هو شكل من أشكال العمل المصرفي الذي يعرفه معظمنا. الخدمات المصرفية عبر الإنترنت هي ببساطة أي شكل من أشكال الخدمات المصرفية الشخصية التي نجريها باستخدام الإنترنت مثل التحقق من رصيدنا وكشوف الحسابات السابقة، ومع تطور الخدمات المصرفية عبر الإنترنت تطورت الخدمات المقدمة، وأصبح بإمكان العملاء الآن التقدم للحصول على قرض أو إجراء تحويلات مالية دولية ضمن حدود معينة”.
ويضيف: “البنوك الرقمية تعد مصطلحاً أكثر شمولاً يشير إلى جميع أشكال المعاملات المالية التي تتم بمساعدة التكنولوجيا، فالخدمات المصرفية عبر الإنترنت هي شكل من أشكال الخدمات المصرفية الرقمية، لكن الخدمات المصرفية الرقمية هي أكثر بكثير من مجرد خدمات مصرفية عبر الإنترنت”.
ويتابع “نظراً لأننا نتحرك بسرعة أكبر نحو مجتمع خالٍ من النقود، فإن الخدمات المصرفية الرقمية هي النظام الذي يسمح لاقتصاد كامل عبر الإنترنت بالنمو والازدهار، لذلك قد نتفاعل مع مختلف جوانب الخدمات المصرفية الرقمية بشكل يومي”.
لا شك في أن الأرقام المتاحة تصب جميعها في مصلحة ازدهار البنوك الرقمية، ومن المتوقع أن يصل سوق الخدمات المصرفية الرقمية العالمية بنهاية هذا العام إلى 27 تريليون دولار. ويعتقد الخبراء أن نمو قطاع التقنية المالية دليل على هيمنة التكنولوجيا على السوق، وبحلول 2030 ستتم إعادة تصميم الأسس المصرفية والتمويلية بالكامل بفضل الابتكارات في مجال الحوسبة السحابية وسلسلة الكتل والروبوتات وغيرها من التقنيات المتطورة الأخرى، وتدرك البنوك حالياً أنه لم يعد من الممكن دعم الأعمال التي تعمل في النظام المصرفي بتقنيات قديمة وإجراءات يدوية غير فعالة.
مع هذا فإنّ الأمر لا يخلو من وجهة نظر متحفظة بشأن مستقبل البنوك الرقمية وتسببها في إحالة المصارف التقليدية إلى التقاعد. في هذا السياق يطرح الخبير المصرفي ويسلي وكلان الأمر من زاويتين مختلفتين؛ الأولى: تتعلق بقدرة البنوك التقليدية على منافسة البنوك الرقمية؟، والأخرى: تتعلق بمدى قبول المودعين بفكرة “البنوك الرقمية البحتة”.
لكن وجهة النظر تلك لا تروق لآخرين.. ففي استطلاع للرأي طرح سؤال بسيط على المشاركين، وكان السؤال: ما الذي ستنقذه إذا كان منزلك يحترق لتضمن تأمين نفسك مالياً؟ في الماضي كانت الإجابات تراوح بين السندات أو وثائق التأمين، لكن في 2022 كانت الإجابة هاتفي المحمول، وهذا يمنحنا إدراكاً واضحاً بأن التكنولوجيا باتت أكثر تحكماً في حياتنا المالية، وفي استطلاع للرأي أجري أخيراً أجاب 60 في المئة من عملاء البنوك بأن العمليات المالية البنكية الرقمية مهمة جداً، وأن أكثر ما يزعجهم في البنوك التقليدية عند إدارة مواردهم المالية هي ساعات العمل المحدودة، والوقت الطويل المطلوب لإنهاء المعاملات المالية، والوقت الضائع في زيارة فرع البنك، وهذا يكشف ميلاً متزايداً لفكرة البنوك الرقمية عامة والبنوك الرقمية البحتة على وجه التحديد”.
وهذا لا يعني أن البنوك الرقمية لا تواجه تحديات تضع قيوداً على نموها، وربما أبرزها في الوقت الراهن افتقاد كثير من العملاء الشعور بالأمان الذي تقدمه البنوك التقليدية، فجرائم الإنترنت والاحتيال المصرفي وعلى الرغم من أنها توجد في النظم المصرفية التقليدية، لكنها ترتبط في أذهان المودعين أكثر بالبنوك الرقمية والخدمات المصرفية عبر الإنترنت”.
من المؤكد أنه لا تزال هناك رغبة من قبل المودعين لمشاهدة مقر للبنك في الشارع الرئيس، الذي يمكن للعميل من أي عمر زيارته لأن لديه أسئلة عن كيفية إدارة أمواله، لكن الحسابات المصرفية الرقمية ووفقاً لعديد من الدراسات أكثر شيوعاً بين الأشخاص الذين تراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً، وهذا يعطي انطباعاً إيجابياً عن مستقبل البنوك الرقمية، لكنه يوجد في الوقت ذاته تحدٍ آخر أمام تلك الفئة من البنوك، من خلال الإشارة إلى الارتباط القوي بين تلك الفئة العمرية ومواقع التواصل الاجتماعي.
وتلفت تقارير اقتصادية إلى أن البنوك تحتفظ بجزء من الودائع كاحتياطي لديها، بينما تقوم باستثمار الجزء الأكبر أو إقراضه بهدف تحقيق الأرباح، وهذا يعني أنه إذا طلب عدد كبير من المودعين ودائعهم في الوقت نفسه فإن ذلك يصيب البنك بالشلل، لأنه لن يكون لديه ما يكفي لسداد تلك الودائع، وانتشار مخاوف من هذا القبيل يؤدي إلى انهيار البنك، ومن ثم يدبّ الذعر في النظام المصرفي ككل، ويصاب الاقتصاد بالركود.
وعند بحث أسباب الإفلاسات البنكية التي حدثت أخيراً سواء في الولايات المتحدة أو سويسرا سنكتشف أن ذلك حدث في جزء منه بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الواقع فإنه في الماضي وقبل ظهور الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي كانت الطوابير الطويلة للعملاء أمام بوابة البنك هي المؤشر الوحيد على أن البنك يعاني. الآن تنتشر الشائعات والمعلومات السلبية من عميل إلى آخر بسرعة البرق بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، والفئات العمرية الشابة أكثر ارتباطاً بوسائل التواصل الاجتماعي ما يجعل التغريدات التي تحمل أنباء سلبية لها تأثير كبير في علاقاتهم بحساباتهم في البنك الرقمي الذين ينتمون إليه”.
من هذا المنطلق يرى بعض الخبراء أن التكنولوجيا الحديثة وعلى الرغم من أنها تقدم دافعاً قوياً للبنوك الرقمية للنمو والازدهار، كما تحث البنوك التقليدية على تطوير ذاتها نحو مزيد من التحول إلى بنوك رقمية، فإنّ الأمر لا يخلو من تحديات قد تتطلب البحث عن حلول تكنولوجية أيضاً لضمان أبعاد التأثير السلبي لمواقع التواصل الاجتماعي على أداء البنوك الرقمية.