قاموسُ «باحثٍ»

أضعتُه في منتصف عام 2011 يوم بدأ الزلزال الكبير يشقِّق العالم من حولي! وكما في أهوال الزلازل لم أنتبه أنه غاب وأنا أرى الذين انقلبوا وعبروا الفالق العميق إلى الجهة الأخرى، وهم يصخبون في المحطات الإعلامية المعادية لأنهم، في الأصل، تمرّسوا بالخطاب الإعلامي، وكانوا يستخدمون وجوههم المعروفة وخبراتهم لتبرير نقل الكلمة كسلاح، من كتفٍ إلى كتفٍ آخر! أما هذا الرجُل فكان في إحدى الغرف الخلفية للإذاعة، وتعبير «الغرفة الخلفية» هنا ليس مجازياً، بل هو واقعي، لأن تلك الغرفة كانت مضافةً لسطح الطابق الخامس في مبنى الإذاعة والتلفزيون العريق الذي عرف خلال واحدٍ وأربعين عاماً توسيعات في الاختصاصات والمهام، لذلك صعد قسم الأرشيف الإخباري وتتبُّع الصحافة العالمية إلى الطابق الذي يُسمّى بالمصطلحات العقارية بالملحق، وجاوره مكتبٌ صغير للتواصل مع محطات الإذاعات العربية وترتيب مواعيد بثٍّ مشتركٍ معها! كانت الغرفة المرتجَلة صغيرة جداً، فيها مكتبٌ عليه أجهزةُ هواتف تسهّل الاتصالات الدولية والداخلية (مع الاستديوهات) إضافة إلى أريكة منخفضة لضيف طارئ، أمامها طاولة عليها الكثير من عُدة القهوة والفناجين التي تخرج إلى المغسلة القريبة ثم تعود معه، وهو مبتسمٌ دائماً، مبتور الكلام والجُمَل، إلا حين يتحدث عن المدير، فأعتقد جازمةً أن صداقة متينة تقوم بين الاثنين وقد تخطّيا معاً علاقة الزمالة إلى تحالفٍ فكريّ أوقعني في فخّ تماثلِهما في الوعي والثقافة، إلى حين بدأ صاحبُ الوجه المبتسم على مدار الساعة، يحكي عن مسلسل تاريخيٍّ مهم يكتبه للإذاعة، وهذه الكتابة كانت متاحة لكل موهوب من دون النظر إلى موقعِه الوظيفي أو الإداريّ، وولادة الكاتب الإذاعي تثير الإعجاب والتشجيع لأنها نوعٌ خاص، المنافسةُ فيه لا تكون على المال والشهرة الصاخبة، لذلك أخذتُ المسلسل لقراءته، وأنا ممتلئة بالتوقعات الحسنة بعد أن زوّدني «الكاتب» بشروح طويلة عن المراجِع التي عاد إليها والأعمال التي سمعها ليستزيد خبرةً، وطلبٍ من «صديقه» المدير أن أزوّده بسرعة بتقريرٍ عما أقرأ!
راعتني لغة الكتابة بأخطائها وركاكتها وكنت أسيرةَ وهمٍ، لأسبابٍ شتى، أن هذا العمل يجب أن يخرج إلى النور، وكلفتُ نفسي بضرورة تصحيح الأخطاء وإعادة الصياغة حتى فاجأني المدير أن المطلوب هو الرأي حتى يدرك «الكاتب» مقدرتَه ويذهب إلى شيء آخر غير كتابة «الدراما» وليس تخطّي العثرات والمطبّات وانعدام الموهبة!
فيما بعد جرى ماءٌ كثير، وغمر أحداثاً فقدَت ترتيبَها الزمنيّ، فما كانت الصداقة التي توهّمتُها بين الرجلين صداقةً لأن أول السّكاكين التي شُحذت على المدير بعد استبداله بآخر كانت من «الكاتب» نفسه، وحين حلّ بنا زلزال الإرهاب، طال الوقتُ حتى استقرّت الأرض تحتنا وتعاملت الذاكرة مع الأشخاص بطريقتها الغرائبية بحيث طمست أشخاصاً بكامل وجودهم، رغم أنني فوجئت به متحدثاً كمراسل لمحطة معادية من الشمال السوري في بداية الحرب، ثم عاد بعد غياب سنين بصفة «باحث» يكتب مطوّلات نقدية عن الفن والأدب والمجتمع والديكتاتورية وفي نفسي، على ما بُنيت عليه من توقعات، أنه نضج وحاز خبراتٍ بعد هذه السنين على طريقة التخمُّر، فإذ بقاموسه هو نفسه حين حلم بكتابة «الدراما»: الركاكة والتشتُّت والأخطاء، لكن بجرأة بالغة هذه المرة، حيث لا رقيب ولا حسيب يوقف كلَّ هذا النبت المتعدّد المتغوّل المتشابه على الضفة الأخرى!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار