رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة وتقليص التسهيلات الائتمانية، يظهر مواطن الضعف المسكوت عنها في القطاع المالي غير المصرفي
تشرين- رصد:
صدق أو لا تصدق ..لكن المصارف هي الحصان الذي يقود الاقتصاد ..وعندما يتطرق الحديث إلى حاجة شركة ما للاقتراض، سواء لتطوير أعمالها أو لمواجهة عثراتها المالية، فإن التفكير يتجه إلى الاقتراض من البنوك.
مؤخراً , عندما تم الاعلان عن إفلاس بنك ما أو مجموعة من البنوك كما حدث في الأشهر الأخيرة، فإن التفكير ينصب على تأثير ذلك وتداعياته في النظام الاقتصادي العالمي ككل أو المنظومة المالية الدولية.
باختصار عندما يتم الحديث عن النظام المالي فإن الحديث بشكل أو آخر يدور حول النظام المصرفي، ونادرا ما تتناول وسائل الإعلام الأوضاع في القطاع المالي غير المصرفي، وتتجاهل في معظم الأوقات ما يقدمه هذا القطاع من خدمات مالية وائتمانية مماثلة للخدمات البنكية، وفي أفضل الأوضاع يتم التعامل مع المؤسسات المالية غير البنكية بحسبانها “بنوكا من الدرجة الثانية”، وبغض النظر عن صواب تلك النظرة من عدمها، فإن تشديد الأوضاع المالية في العالم عبر رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة وتقليص التسهيلات الائتمانية، أظهر مواطن الضعف المسكوت عنها في القطاع المالي غير المصرفي.
قبل شهر تقريبا، لفت بنك إنجلترا الانتباه إلى نقاط الضعف في المؤسسات المالية غير المصرفية، ثم جاء صندوق النقد الدولي ليشير أخيرا إلى ما هو أخطر من ذلك، مؤكدا أن الاستقرار المالي العالمي يعتمد على المرونة التي ستتمتع بها المؤسسات المالية غير المصرفية، حيث يتم تشديد السياسة المالية لمعالجة التضخم المرتفع.
باختصار الاستقرار المالي العالمي بات مرهونا بمؤسسات تعامل الجميع معها بدرجة أقل من الأهمية والاهتمام بتعامله مع البنوك التي تعد حجر الزاوية في النظام المالي الدولي.
يخشى الخبراء الآن أن يتفاقم وضع المؤسسات المالية غير البنكية في الأشهر المقبلة، ما يتطلب جهودا دولية سريعة لفهم وحماية هذه المجموعة الواسعة من المؤسسات.
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن أولا، مم تتألف تلك المؤسسات المالية غير المصرفية؟
هنا يلفت بعض الخبراء في النظم المصرفية ، إن المصطلح يشمل الشركات المالية غير البنكية التي تقدم جميع أنواع الخدمات المالية، وأن الوسطاء الماليين غير المصرفيين مثل صناديق التقاعد وشركات التأمين وصناديق التحوط تلعب دورا رئيسا في النظام المالي العالمي من خلال توفير الخدمات المالية والائتمان والإقراض للأفراد والأسر والشركات وبالتالي دعم النمو الاقتصادي.
وبعد الأزمة المالية العالمية 2008 انتعش قطاع المؤسسات المالية غير المصرفية وأصبحت الخدمات التي يقدمها تنافس في بعض الأحيان الخدمات المالية البنكية، فانخفاض أسعار الفائدة دفع بكثير من المستثمرين إلى البحث عن قنوات استثمارية غير البنوك تمنح عوائد أعلى، كما أن التدابير التي اتخذت بعد الانهيار المصرفي 2008 جعلت عملية الاقتراض صعبة المنال لبعض الفئات، وفي 2021 امتلكت المؤسسات المالية غير البنكية أصولا مالية تبلغ نحو 239 تريليون دولار، ما يعادل نحو 50 في المائة من الأصول المالية العالمية، ومن ثم الأداء السلس لهذا القطاع أمر حيوي للاستقرار المالي العالمي”.
وبالتالي فان نقاط الضعف في هذا القطاع زادت في العقد الأخير، والتطورات المالية الدولية في الفترة الماضية خاصة رفع أسعار الفائدة زاد من الإجهاد الذي يتعرض له القطاع نظرا لضعف السيولة لديه، حيث لا يتمكن من توليد نقود بشكل كاف إلا عن طريق تصفية ما لديه من أصول مثل السندات والأسهم.
لكن لماذا باتت تلك المؤسسات المالية غير المصرفية التي عملت لعقود مصدر خطر على النظام المالي العالمي والاستقرار الاقتصادي الدولي؟
مكمن الخطر من وجهة نظر البعض أنه يعود إلى الترابط عالي المستوى بين المؤسسات المالية غير المصرفية والمؤسسات المصرفية التقليدية،كما أن “أحد المخاطر التي تتعرض لها المؤسسات المالية غير المصرفية في الوقت الحالي هو حدوث خسائر ائتمانية كبيرة نتيجة تخلف الشركات عن السداد إثر أسعار الفائدة المرتفعة وضعف النشاط الاقتصادي”.
والروابط المباشرة وغير المباشرة بين النظام المصرفي والمؤسسات المالية غير المصرفية ليست المصدر الوحيد للخطر على الاستقرار المالي العالمي، فالثقة تلعب دورا مهما في النظام المصرفي، وتصور البعض بأن هناك ارتباطا بين البنوك ومؤسسات مالية غير بنكية قد يكون مصدرا لأزمة مالية واسعة النطاق، وهو ما اشارت إليه وكالة ستاندرز آند بورز للتصنيفات الائتمانية في تقرير لها جاء فيه “هذا الشكل من مخاطر العدوى لا ينبغي الاستهانة به”.
أحد جوانب المخاطر يعود أيضا إلى أن بعض المؤسسات المالية غير البنكية تسمح للعملاء بسحب أموالهم بسرعة، بينما تكون تلك الأموال مستثمرة في أصول لا يمكن بيعها بسرعة تتيح إمكانية إعادة الأموال إلى العملاء.
لكن المشكلة الكبرى تكمن من وجهة نظر البعض في العلاقة بين البنوك التقليدية والبنك المركزي وأنها مختلفة تماما عن العلاقة بين البنك المركزي والمؤسسات المصرفية غير المالية.
وفي الأزمات المالية يمكن للبنوك أن تستند إلى التمويل الطارئ من البنك المركزي، بينما لا يتوافر هذا الامتياز للمؤسسات المالية غير المصرفية، فالبنك المركزي أو الحكومة غير ملزمين بمساندتها، ولذلك يمكن للبنك المركزي اتخاذ تدابير عاجلة تحد من أي أزمة مالية ناجمة عن تعثر البنوك، بينما لا يحدث ذلك للمؤسسات المالية غير البنكية”.
و الأمر يزداد صعوبة الآن، فالمعركة الرئيسة للبنوك المركزية هي كبح جماح التضخم، وإذا دخلت المؤسسات المصرفية غير البنكية في صعوبات مالية تتطلب الحصول على سيولة مالية، فإن البنوك المركزية قد ترفض القيام بذلك لأن هذا يعني ارتفاع معدلات التضخم، وسيواجه النظام الاقتصادي تحديا كبيرا، فإما الحفاظ على الاستقرار المالي وإنقاذ المؤسسات المالية غير المصرفية ومن ثم رفع معدلات التضخم، أو الحفاظ على استقرار الأسعار وعدم ضخ سيولة في الأسواق وترك المؤسسات المصرفية غير البنكية تواجه مصيرها.
مع هذا يرى بعض الخبراء أن الأوضاع المتراجعة للمؤسسات المالية غير المصرفية ستجبر البنوك المركزية على التدخل عاجلا أم آجلا لتقديم دعم واسع لهذا القطاع، لكنهم يشيرون إلى أن هذا التدخل يجب أن يكون مؤقتا ومستهدفا للمؤسسات التي يمثل انهيارها خطرا على الاستقرار المالي، وليس جميع المؤسسات المالية غير المصرفية، كما يجب أن يتوجه الدعم لمصلحة المؤسسات المالية غير البنكية الأكثر تداخلا مع البنوك التقليدية، التي سيؤدي انهيارها إلى انعكاسات كارثية على البنوك، وأن يكون سعر الإقراض الذي سيقدمه البنك المركزي لتلك المؤسسات أعلى من الأسعار السائدة في السوق مع حزمة ضمانات مشددة بشأن السداد، وإطار زمني محدد، على أن يترافق ذلك مع إشراف أكبر لضمان إدارة المؤسسات المالية غير المصرفية للمخاطر بشكل أفضل.
إن “المؤسسات المالية غير المصرفية باتت تلعب الآن دورا رائدا في تقديم الخدمات المصرفية للعملاء، ويتطلب الأمر بأن يخضعها البنك المركزي لاختبار ضغط النظام المالي وهو نوع من الاختبارات تتعرض له البنوك لمعرفة مدى جدارتها المالية وقدرتها على مواجهة التحديات الائتمانية والسحب المفاجئ للعملاء لودائعهم المالية، وأخيرا اقترحت هيئات الرقابة المالية الأمريكية والأوروبية ما يعرف بالتسعير المتأرجح، وهي آلية من شأنها أن تفرض تكلفة على سحب الأموال من المؤسسات المالية غير المصرفية لتجنب إدخالها في أزمة سيولة”.
ربما تكون أجراس الإنذار التي تقرع الآن بشأن الأوضاع غير الجيدة في المؤسسات المالية غير البنكية، بداية لاتخاذ مزيد من الإجراءات لضبط العمل في هذا القطاع، وتسليط مزيد من الضوء على مستوى الأداء، لسد ثغرات الضعف الكامنة، والتغلب على جوانب القصور سريعا قبل أن تتسع وتهوي بالاستقرار المالي العالمي.