حكاية ملوّنة لـ«درويش من حبق» تجربة الفنان التشكيلي بديع جحجاح في كتاب
تشرين-علي الرّاعي:
بين سنتي (2012)، و(2022)؛ ثمة من سيرمي حصى كثيرة في بحيرة التماثل والمُحترف المتشابه في المشهد التشكيلي السوري، ولا يملُّ من الخروج عن النسق، والتحليق خارج السرب كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
عقدٌ من الزمان، ويزيد قليلاً؛ هو عمر التجربة الفنية للفنان التشكيلي بديع جحجاح، التي استطاعت رغم عمرها الفتي أن تفيضَ على الساحة التشكيلية السورية صوب العالم.
من عتبة حبق
تجربة ملونة أخذت من المعطيات الفنية أبسطها، وأقلها، ورغم ذلك أثمرت عن نتائج مفعمة بالغنى الفني، تمثّل ذلك بعشرات المعارض داخل سورية وخارجها، تجربة حملت اسم «مشروع تشكيلي» تحدث عنه الكثير من النقاد، بينما هو – بديع جحجاح – يُفرد له كتاباً بعنوان (درويش من حبق 2012-2022) صدر مؤخراً عن دار دلمون بدمشق، شارحاً من خلاله بواعث التجربة -المشروع منذ تأمل (أصيص حبق) في زمنٍ طفليٍّ ملون، أمسى اليوم بعيداً في الذاكرة، على شباك بيته العتيق في (حمام القراحلة)، القرية الوادعة على سفوح ريف جبلة.. ذلك العمق من ذلك الأخضر البعيد، أوحى للفنان جحجاح، أو كأني به أتخيله يبوح لنا: إنني تمثلت الجمال منذ بدء الكون إلى اليوم.. ألم يبدأ كتابه بـ«لو أتيح لكم أن تسألوا نوحاً؛ لأخبركم أني كنتُ مُختبئاً على ظهر سفينته..»
ولأنّ بدء الكون لأي امرىءٍ يبدأ من عتبة بيته، كما دوّن يوماً شاعر داغستان الكبير رسول حمزاتوف؛ فإنّ بديع جحجاح، يعود بنا إلى ملاعب الطفولة البعيدة، إلى عتبة بيته من هناك، حيث بدأ عالمه من أصيص حبق على شبّاك بيتٍ عتيق، وعلى إيقاعٍ من التراتيل لجدٍّ يُشبه الحبق يبدأ صباحه بتلاوةٍ من آيات الذكر الحكيم.
عرفانية ملونة
تلك المعطيات التي ستُشكّل الكنز في فضاءٍ ريفيٍّ ملون، يبقى جحجاح يمتحُ منه كما النبع الثّر الذي ينهل منه في تحليقه مع اللون في تساميه، وذلك منذ أن بدأ دراسته في قسم (الاتصالات البصرية) في كلية الفنون الجميلة بدمشق، التي قدّمت له معطياته التالية ولاسيما في معنى الاختزال والتحوير والتكثيف، وهو ما منحه (نعمة) تحويل أي شيءٍ إلى رمز من خلال فن التصميم.. والحقيقة أن مشروع الفنان جحجاح الذي أطلق عليه في البداية (دوران) يقوم على الرموز.. وهو ما يمنح العمل الفني الكثير من القراءات والتأويلات.. يذكر: واستمر الشغف والبحث عبر الرسم ليولد اسمي الجديد (دوران) من خلال اهتمامي بالدروايش وحركتهم الدائرية، وحيث إن الرسم عنصرٌ جوهري للتواصل، تتبعت حركتهم ودوارنهم وعلاقتهم بالكون فتبعت حدسي، وأقمت معرضي (دوران) في قصر الشهبندر بدمشق.. وحينها صمم شعار (دوران) خصيصاً للمعرض، الذي يعكس شكل الدرويش يُنظر إليه من السماء، ويتألف من خمسة أشكال: نقطة المركز، وأربعة أقواس مُتناغمة تُعطي بالجمع رقم (5) كدلالة على الحواس الخمس، وبالتركيز نجد في الرمز أربعة أحرف لـ(نون) تشترك بنقطة المركز تدور حول بعضها، ونون بالنسبة للفنان جحجاح هو شكل مجرد لشخص يرفع يديه مُبتهلاً إلى السماء، ويُمجّد الحواس كبوابات للطاقة التي تمنحه الحياة، وتُشكّل الأقواس الأربعة لنون الأقواس الدائرة الكونية، وكذلك ثمة ما يوحي بشكل العين والترددات السمعية.
مشروع أفلا
إذاً كان الدوران – المشروع، لكنه ليس الدوران في المكان، وإنما الدوران تحليقاً، هنا سيوائم بديع جحجاح بين الفنان والباحث في تماهي الحالة العرفانية -المولوية- التي انطلق منها، والحالة اللونية، والتكوين في اللوحة، وصولاً لما يُقارب الفن التركيبي – المفاهيمي، عندما تفيض اللوحة بألوانها، صوب فنون إبداعية أخرى كالسينما والموسيقا، وحتى بحضور الدراويش بوجودهم الحسي لإكمال الصورة العرفانية الملونة من الباء إلى النون من خلال تنامي مشروع الدوران إلى تصعيده التالي في مشروع دوران (أفلا.. مشروع تفكير)..
وللتذكير تستند رباعية أفلا على أربع آيات من القرآن الكريم، وتتماهى مع الإنجيل المقدّس وهي بالترتيب: «الله نور السموات والأرض»، “وخلقنا الإنسان في أحسن تقويم»، «وكلٌّ في فلكٍ يسبحون»، و«أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها».. ومن إنجيل لوقا: «المجدُ لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة».. والبحث المستمر عبر الدوران وسر حرفي (الألف والنون).. إذ يطمح هذا المشروع البصري كما يذكر جحجاح: «إلى مخاطبة العقل لإدراك معنى السديم المُحيط بالكائن البشري، وترميم العطب الروحي الذي أصابه خلال رحلة عبوره الحياة، دون أن يتأمل المسافة التي تقوم على المفاهيم الروحانية الأربعة: «أفلا تعقلون»، العقل أولاً في تمييز رحلة الإنسان عن بقية المخلوقات.. «أفلا تتفكرون»، الإنسان هو انعكاس لتفكيره ومسؤوليته تجاه ذلك.. «أفلا تتذكرون»، مراجعة الإنسان لأفعاله في رحلة عبوره الحياة.. وأخيراً «أفلا يشكرون»، وهنا تلتئم أقانيم العقل والفكر والذاكرة في سؤال الندم الذي يُفضي إلى شكر الخالق على نعمة الحياة بالعقل، وما أنجزه لنفسه وللإنسانية بعد رحيله.
وهذا المشروع لا يتوقف على فكرة واحدة، بل يطمح أن يكون جزءاً من جماليات حياتنا اليومية لشحنها بطاقة روحية متجددة.. وإضافة إلى اللوحة التصويرية هناك أشكال ثلاثية الأبعاد ومجسمات مستوحاة من دوران الدرويش، تستوحي جماليات التركيبات الشرقية برؤية معاصرة، بمعنى آخر، هذا المشروع مفتوح على احتمالات متعددة، فهو إضافة إلى أنه لم يكتفِ بإبعاد الصالة كحضور، خرج لأماكن أخرى كالساحات، والبهو، وغير ذلك، وهو ما منحه الاستمرار بمستوييه البحثي والجمالي، فكان معرض (دوران أفلا.. مشروع تفكير) من خلال تجليات النص العرفاني لجهة لغز العلاقة بين الإنسان وخالقه، فهي علاقة عمودية، بينما تتخذ بعداً أفقياً بين البشر.. جاء ذلك من تأثر الفنان بحرف (النون) في سورة القلم، ومن هنا بدأ نصه لإدراك المعنى المجرد للدوران كرمز أزلي، يتشكّل رمز التكوين من دائرة مفككة الأقواس تشكّل أربعة أحرف لنون متحدة النقطة، وهو في حالة دائرية.. إذاً بدأ البحث الجمالي، أو تمّ استئنافه من: التكوين وسر النون، ثم الجوهر، وهو صورة تجريدية عن الدرويش يشبه الحرف أو الزخرفة الشرقية، ويمكنه أن يكون وحدة جمالية غير منتهية إذا ما تكررت، ثم ولادة (أفلا) ورباعيتها التي أشرنا إليها سابقاً، للوصول لدرجة المحبة في محاولة الدمج بين التراثين الإسلامي والمسيحي.
شهادات في التجربة
حالة بحثية جمالية ملونة، في المشهد التشكيلي السوري، وقف عندها الكثير من النقاد والباحثين والأدباء.. فهذا طلال معلا الفنان والناقد التشكيلي يكتب: «تعكس أعمال بديع جحجاح الفنية بمختلف تجلياتها الإبداعية التزامه الثابت بفرديته من جهة، وبانخراطه الواعي في المشهد الثقافي الوطني من جهة أخرى، وذلك من خلال توغله في المشهديات الساحرة والمناظر ذات الصلة بالطبيعة وبذاكرته الأولى عن ذلك بمنطق فلسفي وجمالي منعش للبصر والعقل..»، أما الناقد سعد القاسم، فيقول: «لقد دفعت ثنائية بديع جحجاح كمصور، وكمصمم غرافيكي، إلى إيجاد علاقة بين الجانب التشكيلي الحروفي للكلمات الأربع، وبين حركة الدروايش، ليصوغها في النهاية على شكلٍ زخرفي يجمع الأمرين معاً، وليضمها إلى اقتراحات غرافيكية غيرها تحوّل حركة الدرويش والكلمة إلى رموز بصرية جديدة تحمل وعياً تراكمياً، وتدمج النوع الإنساني السوري، وتأخذه إلى ضفة سمّاها «الحبق».. بينما يرى الروائي خليل صويلح: «لجأ بديع جحجاح إلى ضفة الروح، وذلك بالاشتغال على معنى الصوفية المعاصرة من موقع مُغاير، بدأت الفكرة بتمرينات تتعلق بالمولوية، أو (رقصة الدروايش) من منظور جمالي، سوف يضعه تدريجياً أمام خيارات روحية أخرى، فانكبّ على مراجعة النصوص المقدسة، وسر الحرف، وتوقف أمام حرف (النون) في كلمة دوران، ثم وصل خلال بحثه إلى إنجاز مشروع آخر بعنوان (أفلا).. () وحروف مفتوحة على أكثر من مقترحٍ فكري تجمعها رباعية: الإنسان، الضوء، الحركة، والطاقة خلال حركة الدرويش الدائرية وتماهيه مع حركة الكون، وصولاً إلى التخفف من سلطان البدن وشهواته.. أعمال تتمحور حول مفردة الدوران الأزلي حول الذات أو نقطة المركز بقصد نشر الطاقة المعرفية والبصرية عن طريق الرمز.»
نقاد كثر توقفوا عند تجربة الفنان بديع جحجاح في هذا الكتاب، لكن أختم مع ما قاله الصحفي اللامع نبيل صالح الذي يقول: «لم يتأثر بديع جحجاج خريج كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق بالمدارس الأوروبية، وكان همّه إنتاج فن محلي يُناسب الثقافة الشرقية، فدخل من باب الصوفية معتمداً على الشعر الصوفي والنصوص المقدسة، ورقص الدرويش ومفهوم الدوران والانعتاق من الجسد للاتصال بالمطلق والتماهي مع وحدة الوجود.. () ومع ذلك مشروع بديع فني وليس دينياً، وإن كان يلتقي مع الأديان في بعدها الروحي والجمالي كمصدر للحب والجمال والسلام..»