«الفزعة» الأدبيّة.. وقراءةٌ في النصوص العاجلة لـ«الزلزال»
تشرين- راوية زاهر:
على الرغم من اعتيادنا على الشّح، والقلة في أدب الكوارث في مدونة أدبنا العربي، لكننا اعتدنا أيضاً «الفزعة» الأدبية متمثلةً بنصوصٍ ومضية انطباعية، وانفعالية تعبّرُ عن الحالة النفسية والشعورية للكاتب أوالشاعرالعر بي، ويبقى السؤال المفتوح: إلى أي مدى يمكن أن تؤسس هذه النصوص لأدب مستقبلي يترجم هول الفاجعة؟ وإلى أي حد ستستطيع هذه الحالات والصور الحسيّة نقل الحقيقة إلى المتلقي، واعتمادها كوثيقة أدبية لفجائعَ مرّت من هنا؟!
وهل سيتمكن الشعر الخجول إن صحّ التعبيرمن أن يعود بحدثيته إلى بكارة الصورة، وحسيتها والتكثيف الحسي من خلال ربطها بالمكوّن الطبيعي الذي نشأت منه؟! وبناء على ذلك، دعونا نتوقف عند ثلاثة نصوص ومضية تناولت كارثة الزلزال، واللافت فيها تنوعها وتقاطعها عند فجيعة الموت.
وهذاالنص الأول للكاتبة مها داؤد :
(« شششْ ..»
اخفضوا أصواتكم قليلاً ..
أمي غافية هناك في الأسفل …
وعدتني بأنها آتية..
بعد أن تسقي الورود الحمراء التي
نبتت – لتوِّها – على صدر أخي الرضيع .. !)
فقد بدأت الكاتبة ومضتها بعنوان يحمل أحرفاً هامسة وهو حرف (ش) لينقل لنا هذا الحرف بنبرته الخافتة دعوة للهدوء ومحاولة كم الفم، بصورةٍ حسيّة مميزة اعتادت أن تستخدمها الأم بوضع سبابتها على فمها حذر رفع الصوت في حضرة النائمين، لتتابع الكاتبة التلطي اللفظي والخفة صعوداً وهبوطاً، وقد صرّحت بلفظة مستخدمة صيغة الأمر: (أخفضوا أصواتكم) لتحدد الشخصية التي استسلمت ربما للنوم الأبدي، ويستمر الهسيس، لتنقلنا الكاتبة بتدرج العاطفة هبوطاً في حضرة الصمت الموجع للموت، كانت على أمل عودة الأم من تحت الرّكام بعد أن استسلمت لرحيل رضيعها، بدليل الهبوط نزولاً باتجاه مدفنه الأخير لترمي آخر ورودها الحمراء فوق الضريح السفلي
الذي فرضته الطبيعة الكارثية على الحدث.
مشهدٌ يملؤه الأسى والحسرة، وكانت النهاية المفتوحة، مع تكثيف لغوي واضح، وإضمار، واستخدام فعل الأمر مع بداية الومضة لتعطي انطباعاً للأسى الملتبس والصيرورة المفروضة مع إدهاشٍ، وشيءٍ من الشفافية. وكذلك الاقتصاد اللغوي الذي يخدم تآلف بنية التركيب اللغوي، فكانت ومضة من وحي الحدث الزلزالي، استنفرت المشاعر أمام إحساسٍ شعري خاطف يمرّ في المخيلة مع أن مادته من الواقع، محملاً بدلالات كثيرة وصياغة لغوية مضغوطة.
النص الثاني: ومضة للكاتب عبدالوهاب محمد:
(تحت الأنقاض..
كان الأطفال يلعبون الطمّيمة
مع رجال الإنقاذ
ولأنهم يجيدون الاختباء
فازوا… ورحلوا.)
«تحت الأنقاض»، بدأ الكاتب نصه بمشهدية عامة للزلزال، وهي الكم المفترض للردم والأبنية المنهارة التي تكومت فوق الأجساد البريئة، وفي صورة حسيٍة رسمها لهول المشهد، وقد شبّه المنقذين والأطفال يلعبون لعبة (الطميمة).. ربما ليبرهن صعوبة عمل المنقذين في ظل غياب أدنى مستلزمات العمل، وعلى المقلب الآخر أطفال أجادوا التواري والتخفي عن أعين الحفارين، ليوظفها الكاتب بإبداع لافت للتخفيف من هول الحدث، ولخدمة نصه، وجعله كاختباءٍ إرادي للأطفال، فيضعنا أمام استحقاق أخلاقي موجع.. فالصور حسية الطرفين، تعجّ بالإيماء والرمز والإضمار، لتكون النهاية مدهشة وموجعة، رحيل قسري في حضرة الموت القابع تحت الركام، الحالة تخفي شيئاً من السخرية الموجعة، فأطفال نصّه المنكوب ليسوا صرعى الطبيعة ولا زلزال الموت، هم صرعى حدة ذكائهم وإتقانهم للعبة طميمة الموت.
أمّاالنص الثالث، فهو لزميلنا الكاتب علي الراعي:
(وها أنا
يا سورية وحيدٌ وحزينٌ،
كقميصٍ منسيّ، ومتروكٍ،
تخفقُ الريحُ فيه على السياج،
وكأنَّ أمّاً نسيتهُ في زحمة انشغالاتها وأحزانها..
فالأصحاب يا سوريّة – على قلتهم-
إما هاجروا أو رحلوا،
أو يتهيؤون للأمرين معاً…)
نصّ يختصرالحكاية، بأوجاعها وحزنها، وكأنه مخلوق يعيش وحشة المكان وأرق الزمان، في بلاد أثقل كاهلها الوجع.. (كقميص منسي ومتروك تخفق الريح فيه على السياج).. تشبيه أركانه تامة، يرمز إلى عمق العبثية والنسيان والترك المقصود – ربما- هذا الرداء البالي المعلق على السياج، نُسي، رُمي، أضاعته أم في غمرة الفقد والخوف، ماهو إلا كناية عن حالة الإنسان السوري الذي رماه الزمن وبعثرته الأقدار.. فالرحيل الذي قصده الكاتب هو رحيل يحصد الأحبة وكأنهم مصطفون كرتل مدرسيّ ينتظرون دورهم في الإخلاء.
فالخلان والأصحاب جلّهم حزموا حقائب الرحيل، فمنهم من رحل بجسده حاملاً خيباته ليرمي بها خارج مضارب الوطن، ومنهم من رحل جسداً وروحاً، ومنهم من في قرارتهم يحكم الموت قبضته على أعناقهم، نص مدجج بالحسرة والحزن لما آلت إليه بلاد الياسمين على لسان من خبر حبها وغضبها وحزنها.. فالنص، قصيدة شعرية تتعدّد فيها الأصوات الشعرية، وتحيله إلى بنية جديدة تسبح في إشارات تنطوي ثناياها على علامات متنوعة فيها من الإثارة والدهشة ما يجعلها تثيرالمتلقي، وتجذب انتباهه في انتسابها إلى عالم اللغة والدلالة، وتحميل الألفاظ للطاقات الشعورية الهائلة برداءٍ مأسوي ينطوي على الحسرة، والشفقة والأذى لواقعٍ لا يقلُّ أسى طابقه العلوي عن الأسى المحبوس تحت الركام.
بمشهدية وحدسية وشعرية طالعتنا النصوص السابقة، مستمدةّ ألفاظها من المعجم اللغوي للكارثة ببلاياها ورزاياها، واللافت أن النصوص الثلاثة تنتمي للأدب الوجيز، الذي كان يُنافس الخبر العاجل في سرعته، واقتضابه وتكثيفه.