صحوة إنشائيّة على إيقاع الزلزال الصاخب..”استنفار” غير مسبوق لفرق السبر والمعاينة والنتائج تفوق المتوقع
تشرين- باسم المحمد:
خلال أيام قصيرة حددت لجان مختصة، عشرات المباني المهددة بالانهيار خارج المحافظات المنكوبة، وتم هدم العديد منها تجنباً لأي كوارث قد تحصل نتيجة أي اهتزاز طارئ قد لا يكون سببه زلزال، وهذا ما يعد مؤشراً على ضرورة العودة إلى الدراسات السابقة المتراكمة عن وضع عشرات المناطق التي تشكل أبنيتها خطراً على ساكنيها..
توصيف الواقع
يمكن تقسيم المناطق السكنية “الخطرة” إلى عدة أصناف أولها المتراصة في مناطق المخالفات ولاسيما في المحافظات الكبرى (دمشق وريفها وحلب)، والتي مرت خلال العقود الأخيرة بمراحل تطورت مع ازدياد الطلب على السكن بالقرب من مراكز المدن، إذ بدأت بمنازل أقيمت تحت جنح الظلام بمواصفات لا تمت بأي صلة للمعايير المعتمدة في مجال سلامة البناء، لتدفع الحاجة أصحابها إلى تطويرها إلى أبنية طابقية ومن بعدها إلى برجيات (ولاسيما خلال فترة الحرب) تصل في بعض مناطق مخالفات دمشق إلى عشرة طوابق، ناهيك باغتنام تجار البناء لفترة الأزمة وزرع كتل سكنية بين التي كانت قائمة سابقاً ما جعل من مناطق المخالفات وكأنها كتلة أسمنتية واحدة متلاصقة ببعضها، وهذا يرتب سلسلة أخطار كبيرة في حال حدوث أي طارئ، إذ قد يسبب اختلال مبنى واحد الضرر بعدة أبنية محيطة به، الأمر الذي سيسبب كارثة فوق الكارثة لانعدام طرق الإخلاء، ما سيزيد من الخسائر البشرية المتوقعة لصعوبة وصول التجهيزات في الوقت المطلوب..
بعض مناطق المخالفات أصبحت وكأنها كتلة أسمنتية واحدة متلاصقة ببعضها، وهذا يرتب سلسلة أخطار كبيرة في حال حدوث أي طارئ
وحسبما قدر الخبير العقاري عمار يوسف في تصريح سابق لـ” تشرين” أن مناطق المخالفات تزيد نسبتها على ٤٠% من المنطق السكنية في سورية وفي حال حصول هزة أرضية متوسطة لا تزيد شدتها على خمس درجات على مقياس ريختر فإنّ ٧٠% منها مهدد بالانهيار.
أما الصنف الثاني من المباني الخطرة فهو موجود في المناطق التي سيطر عليها الإرهاب خلال سنوات الحرب والتي نخرها الإرهابيون بشبكات أنفاق هائلة استعملوها في اعتداءاتهم ولاسيما في ريف دمشق وحلب، هذا إضافة إلى السيارات المفخخة وقذائف الحقد التي سببت تصدع الكثير من المباني..
وهناك أيضاً صنف ثالث يمكن إضافته وهو إضافة بعض الطوابق إلى الأبنية السكنية في المناطق المنظمة ما زاد من الحمولات على الأساسات التي تمت الموافقة عليها من الوحدات الإدارية عند تأسيسها ما يؤثر على سلامتها..
بعد الكارثة شكّلت عدة جهات معنية لجاناً مختصة للكشف على سلامة الأبنية والمنشآت في المناطق المنكوبة وخارجها نتيجتها هدم عشرات المباني الخطرة على شاغليها
وهنا لا بدّ من التذكير بأن نصوص تشريعية عديدة صدرت خلال السنوات الماضية فرضت عقوبات وغرامات كثيرة على إقامة المخالفات لكن للأسف لم يتم تطبيقها من معظم الوحدات الإدارية بهدف تحقيق مكاسب شخصية من شبكات تمرست واعتاشت على إقامة المخالفات..
يضاف إلى ما سبق إغفال أو التهاون في دراسة طبيعة التربة والتركيبية الجيولوجية لعدد من المناطق التي تم الترخيص فيها لإقامة وحدات سكنية.
معالجات طارئة
بعد الكارثة شكّلت عدة جهات معنية لجاناً مختصة للكشف على سلامة الأبنية والمنشآت في المناطق المنكوبة وخارجها، ووفقاً لما أعلنه وزير الأشغال العامة والإسكان في تصريحه لـ” تشرين” فإنّ فروع نقابة المهندسين في المحافظات المنكوبة والمهندسين الاستشاريين في الشركة العامة للدراسات الهندسية تقوم بالتنسيق المباشر مع لجان السلامة الإنشائية في المحافظات لتقديم الدعم الفني والاستشارة الهندسية المطلوبة لتحقيق السلامة الإنشائية للأبنية.
كما لفت وزير الإسكان إلى أن فرق السلامة الإنشائية باشرت في محافظات حلب واللاذقية وحماة، التي تضررت من جراء الزلزال، بإجراءات الكشف عن المنازل المتصدعة وستقوم بأعداد تقرير عن كل محافظة، وضمت الفرق مجموعة السلامة الإنشائية في المحافظات المنكوبة والمكاتب الهندسية في نقابة المهندسين وخبراء من شركة الدراسات الهندسية وتوزعت هذه اللجان جغرافياً على المناطق المتضررة داعياً المواطنين الراغبين بالتأكد من السلامة الإنشائية لمنازلهم مراجعة هذه اللجان عن طريق المحافظة، ففي حلب توجد 68 لجنة سلامة إنشائية، وفي اللاذقية 200 مهندس، ولجنة واحدة في حماة.
وتم الكشف على ما يزيد على 576 مبنى خاصاً، و22 مبنى حكومياً في حلب، وفي اللاذقية وجبلة تم الكشف على 4000 مبنى، مع إخلاء المباني التي تبين أنها متصدعة وآيلة للسقوط.
من جهته نقيب المهندسين غياث قطيني بيّن أن إجمالي عدد المباني التي تم الكشف عليها منذ وقوع الزلزال وحتى أمس هو ٧٧٢٤ بناء سكنياً منها ٢٥٠٠ بناء في حلب، بينما عدد الكشوفات على الأبنية في اللاذقية ٢٣٠٠ بناء، وفي حماة ٢٢٣٧ كشفاً، أما في إدلب فبلغ عدد الكشوف ٦٨٧ بناء.
وذكر نقيب المهندسين أن النقابة تدرك تماماً أهمية تصميم المباني والمنشآت لمقاومة الزلازل، فقد أصدرت النقابة في عام ١٩٩٥ الكود العربي السوري الذي يلزم بتصميم المباني لمقاومة الزلزال في كل مناطق البلاد بموجب خريطة زلزالية، وتم اعتماد الكود وتطبيقه بقرار من رئاسة مجلس الوزراء، حيث أصبح إلزامياً لكل المباني والمنشآت لكل القطاعات (الخاصة- العامة- المشترك- التعاوني).. وذلك بدءاً من عام ١٩٩٦، لافتاً إلى أن المباني قبل عام ١٩٩٥ كانت مصممة لمقاومة تأثير الرياح وهي تقاوم بشكل مقبول الشدّات الزلزالية.
نتائج مباشرة
حتى يوم أمس ذكر نائب محافظ حلب كميت عاصي الشيخ لـ “تشرين” أن عدد المباني التي جرى تقييمها بلغ 2500 بناء سكني، ووضعت لجان التقييم 33 بناء ضمن الدائرة الحمراء الخطرة وتمت إزالتها كلياً حرصاً على سلامة المواطنين في مناطق مختلفة في المدينة.
وذكر عاصي الشيخ أن عدد المباني التي انهارت بسبب الهزات الارتدادية والزلزال وصل إلى 54 بناء بينما تتداعى مبانٍ كثيرة وخطرة وغير صالحة للسكن.
بينما في اللاذقية فقد قامت لجان السلامة العامة المعنية بالكشف عن الأبنية بالاتفاق مع نقابة المهندسين والشركة العامة للدراسات الهندسية، ومجالس المدن والخدمات الفنية تم تشكيل هذه اللجان للكشف عن المباني المتضررة، وتم إنجاز تقييم لنحو 70 بالمئة من هذه المباني، وعلى أثر ذلك قررت اللجان هدم بعض المباني في مناطق عدة في جبلة واللاذقية، بعد تأمين السلامة للأبنية المجاورة.
وخارج المناطق المنكوبة تم في دوما بريف دمشق وفق ما أعلن المجلس المحلي في المدينة إزالة ثلاثة أبنية متصدعة وغير قابلة للتدعيم، حفاظاً على حياة الأهالي، اثنان منها كانا مأهولين بالسكان، معيداً السبب إلى الأعمال الإرهابية أو الزلزال، وفي الهامة أعلنت محافظة ريف دمشق عن هدم 6 أبنية قديمة آيلة للسقوط وغير صالحة للسكن في منطقة المدارس، لكونها باتت تشكل خطراً على المارة، بسبب الإرهاب والزلزال.
وفي حماة فقد خلصت اللجان المشكلة إلى أن أغلب التصدعات بالأبنية التي تم الكشف عليها ناتجة عن نقص في عوامل السلامة في مرحلة تنفيذ هذه الأبنية نتيجة الجنوح نحو التوفير في التكلفة.
حفظاً للأرواح
بعد إعلان وزارة الصحة مساء أمس أن ضحايا الزلزال بلغوا ١٤١٤ وفاة وحوالي ٢٥٠٠ مصاب، يمكن القول (بعد الإيمان بقضاء الله وقدره): إن التراخي والتجاوز والتغاضي عن معايير سلامة إقامة الأبنية وفقاً لما هو معتمد في القوانين كان أحد أسباب نسبة- مهما كانت- من الضحايا والإصابات، كذلك إعلان وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك أمس عن التوجه إلى محاسبة المتعهدين المخالفين.
محافظ حمص: لا للعشوائية والفوضى في العمل في الأيام القادمة، سواء من المقاولين أو المهندسين والمراقبين وحتى من كل جهات المحافظة المتخصصة بالبناء والإعمار
كما شدد محافظ حمص منذ أيام خلال مؤتمر مقاولي حمص على أنه لا للعشوائية والفوضى في العمل في الأيام القادمة، سواء من المقاولين أو المهندسين والمراقبين وحتى من كل جهات المحافظة المتخصصة بالبناء والإعمار، بل ستكون جميعها ضمن أسس وضوابط قانونية منتظمة، كذلك تحدث عن رخص البناء التي أصبحت لزاماً على مهندس مختص أو مقاول منتسب للنقابة.
كل هذا لن يكون سبباً في التخفيف مما حصل بعد الزلزال، لكن ذلك يجب أن يكون دافعاً حقيقياً للاستيقاظ واعتماد العديد من الدراسات التي أجريت حول مخاطر عدم مراعاة معايير التنظيم العمراني والإنشائي والسكني، وإلى ضرورة تحديث البيانات المتوافرة حول قطاع الإسكان بكل تفاصيله، والأخذ بالتحذيرات المتكررة من الخبراء بأن منطقتنا مرتبطة جيولوجياً مع مناطق الهزات والزلازل بين تركيا وحلب وحماة.
وهذا ما رفع صوت الاختصاصيين خلال الأيام الماضية داعين إلى الاعتماد على الكود العربي في الدراسات الهندسية وتعليمات نقابة المهندسين في سورية، والعمل وفق مبدأ الالتزام بنظام ضابطة البناء وعدم تجاوز مخالفات الأبنية، والعمل وفق إستراتيجية دراسة الطرق بشكل صحيح ورص التربة وفق التجارب المخبرية الصحيحة، واللجوء لخطط التوعية وأخذ الحذر من حدوث مثل هذه الهزات، وتفعيل إدارة الكوارث وتخصيص موازنة خاصة بها.
أصوات الاختصاصيين ارتفعت بضرورة البدء من وضع مخططات تنظيمية للمدن ليتسنى بناء ضواحي تتمتع بالمواصفات الهندسية، وإعادة تنظيم مناطق المخالفات بأبنية حديثة سليمة
والخطوة الأولى تبدأ من إنهاء العمل، وعدم السماح بتنفيذ المباني والمنشآت من مقاولين لا يمتلكون سوى المال.
وكذلك البدء من وضع مخططات تنظيمية للمدن، ليتسنى بناء ضواحي تتمتع بالمواصفات الهندسية، وإعادة تنظيم مناطق المخالفات، بأبنية حديثة سليمة، لأن جميع الأبنية في هذه المناطق لا تحقق الحد الأدنى من السلامة الإنشائية، وستنهار عند زلزال خفيف بشدته، ما يؤدي لسقوط الكثير من الضحايا.
هذا إضافة إلى منع تنفيذ المباني على الهيكل، وبقائها من دون إنهاء وإكساء لفترة زمنية طويلة، والتي تمتد أحياناً لمدة تتجاوز 10 سنوات، لأن هذه المباني تكون عرضة لتأثير العوامل الجوية من رطوبة وحرارة، وخاصة في المناطق الساحلية، حيث يتعرض فولاذ التسليح للصدأ، ويحدث تشققات في البيتون، وبالتالي لا بدّ من إصدار التشريعات اللازمة لإلزام المقاولين بتنفيذ البناء بشكل كامل.