في المشهد النموذجي للثقافة أن يجتمع الأدباء ليتحدثوا و«يتجاذبوا» أطراف تجاربهم التي تترك وراءها ما يتركه المدُّ البحري على الشواطئ في ضوء القمر، لأن هذا الحراك يهزُّ الساكن من سباته، ولعل الاجتماعات المُتقصَّدة بين الأدباء، وخاصةً تلك التي تجمع بين الأجيال هي خيرُ مناسبة لقدح زِناد الفكر والنظر إلى جهات اشتعاله!
تُحضَّر الجلسة باهتمام ليكون لكلّ كاتب شاب مكانُه المريح ويبدأ الإلقاء: شعر. قصة. خاطرة. وكل نصٍّ يفتح عشرات الأبواب على أسئلة من الجُلاس: -أنت تميل في نصّك إلى الصّوفيّة، هل قرأت «محي الدين بن عربي»؟ -لا! لا أعرفه! –حسناً، ماذا عن «الحلاج»؟ «السُّهروردي»؟ «ابن الفارض»؟ وبعد نفيه بحركة من الرأس تتحوّل ملامح وجهه إلى ضيق يزداد بعد السؤال عن «شمس التّبريزي» و«جلال الدين الرومي». وحين الانتقال إلى القصة القصيرة يكون النفي أقوى، من «الكاتب»: -قرأتَ «عبد الله عبد»؟ «علي خُلقي»؟ «فؤاد الشايب»؟ «حنا مينه»؟ «تشيخوف»؟ «إدغار ألن بو»؟ الأجوبة كلها هي الصمت والاستغراب، تتحول الجلسة بعدها إلى زرع الحقل الفارغ غير المحروث بأسماء لا بدّ منها للقادم إلى عالم الأدب ذي البوابة العالية والأرض الواسعة! ماذا عن أعلام الوطن الكبار؟ ماذا عن أدباء الوطن العربي؟ لمن قرأتم من روائع الأدب العالمي المترجَم عن عدة لغات؟ هل لفت انتباهكم اسم ناقدٍ مشهور يتخوّف منه الكتّاب الراسخون؟ هل تميزون بين الجهات الناشرة لأن دور النشر لم تدخل سوق التنافس فحسب، بل صارت مؤدلجة وتخدم جهاتٍ، الفكرُ لديها سلاحٌ قويّ كما السينما وأفلام الصور المتحركة والفن التشكيلي والإعلانات؟
لا ذكريات عن مطبوعات كانت تُقدم للأطفال واليافعين من وزارة الثقافة! لا معرفة واكبت سنّ الشباب ولا زوّادة تكفي حتى بضع خطا في بداية الطريق!
هل يكفي أن ندفع بكاتب كبير ليستظلّ به القادمون إلى الكتابة بمواهبهم وحدها ليقفوا على مكتبته الهائلة وقراءاته التي تفوق ما كتب بآلاف الصفحات، لأن الكتابة التي لا تتغذى بالقراءات لا تعدو أغصاناً ستعرى وتجفّ، وينصرف عنها التوّاق إلى الظل والزهر والنسائم!
في لحظةٍ ما، ربما تشبه جلسة الاستماع إلى أدباء شبّان، كتب الألماني «هيرمان هيسّه» رسالة إلى شاعر شاب سأله: كيف أصبح شاعراً «أعتقد أنها افتراضية» وكذلك فعل الكاتب البيروفي «ماريو فارغاس يوسا» ورسما في الرسالتين الطريق الأمثل للبدء بكتابة الأدب وهي كتابة لا يمكن أن تجعل من صاحبها ذا شأن يُذكر إذا كان قادماً من أرضِ: -لا أعرف! لم أسمع! لم أقرأ! وهي أرض أقلُّ ما يقال فيها وعنها: إنها أرض يباب، لن تُنبت، ولن تزهر، ولن تخضرَّ حتى بنبات طفيليّ!
نهلة سوسو
123 المشاركات