موسكو نحو إستراتيجية جديدة
عبد المنعم علي عيسى
يبدو أن الإستراتيجية التي اتبعها الروس في صراعهم مع الغرب على الأرض الأوكرانية قد طرأ عليها تعديل جوهري، الأمر الذي يمكن لحظه على الأقل قبيل نحو ثلاثة أشهر، وتحديداً منذ أواخر شهر آب المنصرم، والتعديل إياه كانت قد فرضته «جردة حساب» تتضمن تطورات الصراع ومداراته التي اتسعت حتى غدا أشبه بحرب عالمية لكن ضمن جغرافيا محدودة، فيما «الكل متفق» على أن خروج النار عن حدود تلك الجغرافيا سيولد مشهداً شبيهاً بذاك الذي ارتسم صيف العام 1939 الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الثانية، هذا إن لم تكن هذه الأخيرة «مزحة» تجاه ذاك الذي سيتولد عن الخروج آنف الذكر.
يمكن القول إن «جردة الحساب» أفضت إلى أن الصراع الدائر، والذي كاد أن يتم شهوره التسعة، قد أدى من حيث النتيجة إلى توحيد صفوف الغرب بعدما تراكمت العديد من المؤشرات، تلك التي سبقت 24 شباط المنصرم، وهي في مجملها كانت تشير إلى تفسخ النسيج الغربي على ضفتي الأطلسي بوتيرة متسارعة حيث من الجائز النظر لـ«بريكست»، التي قادت نحو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على أنها «بداية التأريخ» لذلك التفسخ، فيما العديد من المؤشرات كانت تقول إن ثمة دولاً أوروبية أخرى كانت تمارس فعل الإحماء الذي سيسبق إنضاجها لـ«بريكست» خاصة بها.
توحد الغرب هذا الذي فرضته ظروف محددة والذي قد يعود إلى سابق عهده حال تغير تلك الظروف، قاد الروس نحو تغليب «الشق الاقتصادي» للحرب على «الشق العسكري»، فالحرب، أو الصراع، ليست هي الأعمال العسكرية فحسب، وإنما هي جزء منها وقد لا تكون هي الجزء الأهم، ثم إنها وفق التوازنات الراهنة مع الغرب سوف تكون بكلف عالية في حرب لا شك أنها ستكون طويلة الأمد، ثم إنها، أي الأعمال العسكرية، تحدث دوياً إعلامياً يستثمره الغرب في ترسيخ ظاهرة «الروس فوبيا» التي تعني غرس ظاهرة الخوف من الروس في الذهنية الغربية، وللفعل حساباته في أي صراع أياً يكن حجمه، لكن ذلك كله لا يعني أن الإستراتيجية الجديدة تغفل دور الأعمال العسكرية التي قد تتخذ أشكالاً جديدة هي في جلها ذات طابع احتوائي، على نحو ما حصل في خيرسون مؤخراً، جنباً إلى جنب الاستنزاف الاقتصادي الذي تعتمده تلك الإستراتيجية.
من الراجح أن صانع القرار الروسي قد ارتأى أنه بالإمكان كسب الحرب اقتصادياً، والرؤية تلك يدعمها الأداء الاقتصادي الروسي الذي حقق الكثير من المكاسب على حساب اقتصاديات أوروبية وغربية وازنة، الأمر الذي كان أقرب للمفاجأة لهذه الأخيرة التي كانت تنظر إلى الاقتصاد الروسي على أنه عاجز عن تمويل حرب كبرى ولأمد طويل، وهذا النجاح يبدو أنه على موعد مع مكاسب أخرى على ضفاف تلك الاقتصاديات الغربية المحكومة بالانهيار ليس بفعل الحرب الأوكرانية فحسب، بل لاعتبارات أخرى عديدة لا بدّ أن الأخيرة سوف تزيد من تفعيلها، وأبرزها أن تلك الاقتصادات تعتاش على الحروب والأزمات، وإذا ما كانت تلك الإعاشة قد حققت أُكلها خلال نصف القرن الماضي قياساً بالتوازنات القائمة، فإن التحولات الكبرى، المتمثلة بصعود كتل اقتصادية كبرى مثل الصين والبرازيل والهند وهي بعيدة كل البعد عن نمط الاعتياش سابق الذكر، سوف تخلق «نخراً» في داخلها بحكم اختلاف النموذج وطريقة الربح، الأمران اللذان سيجعلان من الأخيرة عنصر جذب للعديد من الدول المنهوبة سواء بدفع «الأتاوة» مقابل الحماية، أم بعقود استثمار ما كان لها أن تبرم فيما لو توافرت البدائل.
هنا، يمكن القول إن روسيا قررت رفع سقف تكلفة الحرب على الغرب الذي قد لا يصمد إذا ما ارتفع ذلك السقف لحدود أعلى من تلك التي يقف عليها الآن، في حسابات تأخذ بعين الاعتبار طول أمد الصراع وإمكان تمدده نحو جغرافيا جديدة، والفعل من حيث النتيجة يهدف إلى تبريد «الحماوة» في الرؤوس الغربية دفعاً بها نحو تخفيض سقف توقعاتها، وكذا مكاسبها المنتظرة من تلك الحرب.