إنهاء عملية برخان هزيمة فرنسية إضافية في عهد ماكرون
ميشيل كلاغاصي
في خطوة متوقعة، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً، نهاية عملية «برخان» في منطقة الساحل الإفريقي، بعد فشلها، وانكشاف الوجه الفرنسي القبيح وأفعاله المشينة هناك، فقد وجد ماكرون نفسه أمام إعلان انتهاء العملية, أو التقليص التدريجي للوجود الفرنسي العسكري هناك، من دون أن يعني ذلك انسحاباً حقيقياً ونضجاً سياسياً، أو تغييراً في الذهنية والسلوك الاستعماري للقيادة الفرنسية, وتحديداً للرئيس ماكرون.
فقد تحدثت بعض المصادر الإعلامية الغربية، عن نية ماكرون الانسحاب منذ شباط 2021, وبأنه انتظر الوقت الملائم لإعلانه، وسط هواجس تعرض بلاده إلى انسحاب كارثي على غرار مغادرة القوات الأمريكية من فيتنام ومن أفغانستان مؤخراً, وسط الانقلاب العسكري الذي ضرب مالي في أيار 2021, ومعارضة حكومات بعض الدول الإفريقية للانسحاب الفرنسي كالنيجر وبوركينا فاسو, تحت ذريعة عدم قدرتهم على مواجهة الإر*ها*بيين بمفردهم.
لكن تدهور الأوضاع في مالي، وازدياد المشاعر المعادية للدولة الفرنسية في عموم غربي إفريقيا، وانفضاح أمر دعمها وتعاملها مع الجماعات الإر*ها*بية, التي ادعت محاربتها من خلال عملية «برخان»، دفعها نحو تغيير إستراتيجيتها واختيار الانسحاب وإنهاء العملية، ناهيك بالتواجد الروسي المنافس والضاغط على وجودها في القارة السمراء, واهتمام باريس بتداعيات الحرب في أوكرانيا على المستويين الداخلي والخارجي, ناهيك بتنامي وتصاعد أصوات الأفارقة ممن يطالبونها بمغادرة إفريقيا بشكلٍ كامل, وسط شكوكٍ بانسحابها من الدول التي عارضت الفكرة, وبذلك تكون فرنسا قد هزمت نفسها بنفسها في معركتها المزعومة لمواجهة الإر*ه*اب هناك.
من الواضح أن فرنسا كانت تشعر بالسعادة من جراء وجودها ونفوذها في إفريقيا, ولم تكن تعير اهتماماً للتفكير في إنهاء «الاستعمار القديم», وهي ماضية من خلال شهواتها التوسعية, بسرقة ثروات تلك الدول، غير آبهة بالقوانين الدولية وبالقيم الأخلاقية والإنسانية والديمقراطية التي تدعيها، وحملت لواء الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان لتبرير غزوها واستمرار استعمارها الدول, في الوقت الذي تستمر فيه بالتآمر والتدخل السافر في الشؤون الداخلية لعشرات الدول حول العالم كسورية ولبنان وليبيا وإيران وغيرها.
كان على القوات الفرنسية أن تبدأ في الانسحاب من مالي قبل عدة سنوات, لكنها وحسب وزارة دفاعها, لجأت إلى الانسحاب التدريجي في منتصف عام 2021 من شمال مالي وسلمت بعض المدن إلى الجيش الوطني في مالي، بالتنسيق مع الحكومة الجديدة, وبعثة الأمم المتحدة هناك, وفي نهاية تشرين الأول 2021، قلصت قيادة عملية برخان عدد موظفيها بالقرب من الحدود الجزائرية إلى 80 موظفاً, و500 جندي فرنسي, كما نقلت عدداً كبيراً من شاحناتها وآلياتها العسكرية ومعداتها اللوجستية إلى مدينة جاو، وأخلت قاعدتها في مدينة كيدال، وتركت خلفها مفرزة رمزية صغيرة.
يبدو هروباً محسوباً مشابهاً لهروب قوات الغزو الأمريكي و«ناتو» من أفغانستان, مع فارق أنهم استطاعوا تحييد مشهد الانسحاب المذل عن وسائل الإعلام.
لقد لعبت فرنسا دوراً سيئاً جداً, اعتمدت فيه على الإر*ها*بيين من جماعة «أنصار الدين» التابعة لتنظيم «القاعدة» الإر*ها*بي, لإنشاء جيبٍ إر*ها*بي في مالي, وتذرعت بعملية برخان للقضاء عليهم, ومنعت الجيش المالي من الاتجاه نحو كيدال لمواجهتهم, في حين كانت السلطات الشرعية فيها قد طالبت العاصمة بدعمٍ جوي وبعمليات مراقبة فقط, وقد قامت جماعة «أنصار الدين» الإر*ها*بية لاحقاً بشن أكثر من 60 هجوماً على قوات حفظ السلام, وعلى أهدافٍ مدنية وعسكرية في مالي منذ عام 2016 حتى مطلع عام 2022.
لم تفوت الدولة الفرنسية وخارجيتها مناسبة لإظهار وإثبات سياستها العدائية تجاه مالي, وسبق للرئيس إيمانويل ماكرون وفي بيانٍ ألقاه في الخامس من شهر تشرين الأول عام 2021, حول عدم شرعية الحكومة الحالية, أكد فيه بأنها منبثقة عن «انقلابيين»، وبأنها حكومة باطلة لا ديمقراطية, وقد أغضبت تصريحاته يومها جميع الماليين.
في حين أدان رئيس الوزراء المالي تشوجويل مايغا في كلمة بلاده أمام الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2021، تصرفات وسياسات الدولة الفرنسية في المنطقة, وأشار إلى أن باريس تخلت عن باماكو في منتصف الرحلة وتركتها وحيدة بمواجهة الإر*ها*بيين, عندما فشلت عملية برخان فشلاً ذريعاً.. وقد تعامت فرنسا عن تورط جنودها في عمليات إجرامية للسيطرة على تهريب المخدرات ونهب موارد البلاد, الأمر الذي دفع مالي للجوء إلى شركة عسكرية روسية لدعمها في مكافحة الإر*ها*بيين –حسب رئيس وزراء مالي- ما أثار حفيظة واستياء باريس, وجعل وزير الخارجية الفرنسي آنذاك جان إيف لودريان يعمد إلى تهديد الكرملن بـ «عواقب وخيمة».
لا تزال باريس تعدّ مالي وعدداً من الدول الإفريقية الأخرى محمياتٍ وأراضيَ فرنسية، وتبذل قصارى جهدها لمنع تعزيز علاقات المستعمرات الفرنسية السابقة مع غير دول وعلى رأسها روسيا، وحاولت استخدام الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على أفراد وكيانات روسية زعمت أنهم يرتبطون بعلاقات مباشرة مع شركة فاغنر العسكرية الخاصة.
فقدت فرنسا الكثير من هيبتها ومن قوة تواجدها العسكري في عموم دول إفريقيا, واضطرت لإنهاء عملية بريخان, وصبت اهتمام خارجيتها على الانتقاد المستمر لنشاطات شركة فاغنر في مالي, التي تعدّها سبباً لتراجع الوجود العسكري الفرنسي هناك, وعلى الرغم من حصول فرنسا على دعم اليونان, والاتحاد الأوروبي, والولايات المتحدة الأمريكية، لكن هذا لم يعفِ تلك الدول وغيرها من انتقاد سياسة فرنسا الاستعمارية في عموم إفريقيا, من خلال إستراتيجية النفاق الغربي، خصوصاً عند تضارب المصالح.
يوماً بعد يوم تثبت السياسة الفرنسية عجزها في إبداع سياسة حديثة متطورة, تؤكد من خلالها استيعابها لمتغيرات العصر, وترمي عنها ذيول الماضي الاستعماري, والبحث المستمر في علب النفايات عن تناقضات الشعوب والدول, وتحديد نقاط ضعفها, بهدف تحويلها إلى مستعمرات ومحميات فرنسية, بالاعتماد على ساسة الصف الأول, الذين أطاحوا بمكانة فرنسا وهيبتها, ونالوا من سمعتها, ودورها الحضاري والإنساني والسياسي, وتحولت بفضلهم إلى دولة شريرة تشارك في جميع المؤامرات والحروب, إلى أن أنهكها ضعفها وتحولت إلى دولة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية, ساهم بتدهور مكانتها عدة رؤساء تعاقبوا على حكمها في العقدين الأخيرين, ولم يكن الرئيس ماكرون بأفضل حالاً من سابقيه, واكتفى بمتابعة تراجع شعبيته, وبوعوده الانتخابية التي لم ينفذ منها شيئاً, وعيونه شاخصة على قيادة العالم الأوروبي من خلال غطرسته الفارغة التي قادته نحو الانصياع لعداء موسكو, والمشاركة الفاعلة في معاقبتها والحرب العسكرية عليها, ولم يجنِ من جرائها سوى الهزائم السياسية, والعسكرية, ولم تنفع فيها العقوبات على موسكو, لكنها طالت الشعب والداخل الفرنسي الذي بدأ يضيق ذرعاً بحكمه وسياساته, وباتت الإضرابات والتظاهرات الشعبية والنقابية والحزبية مشاهد شبه يومية, وتضاعف عدد الفقراء والمحتاجين, وسط تذمر الفرنسيين من تردي أوضاعهم الاجتماعية والمعيشية, الذين طالبوا بزيادة رواتبهم, وبتخفيض أسعار الطاقة الكهربائية والغاز, وباتوا أكثر قرباً من الانقلاب على عهده, وهذا ما لن يستغربه أحد إن حصل قريباً.