على فنجان قهوة نظرات في الأحداث العربية والدولية الراهنة
ادريس هاني
-شعبة أخرى لطالما تمّ تجاهلها في معمعان السياسوية، ألا وهي الصّحة النفسية والمتابعة وإخضاع السياسة كممارسة وتنظير، للمقاربة الإكلينيكية، وهذا بالضبط ما يثيرني أثناء حدوث وقائع سياسية تستدعي قراءات ومواقف وتجاذبات مختلفة، في البيداء العربية.
وجب التأكيد هنا، على أن معظم ممارسي السياسوية في المجال العربي، هم هاربون من المصحّة العقلية، وسنظلمهم كثيراً إن قلنا إن ما ينقصهم هو الوفاء، بل إنّهم في حالة غير مسؤولة، حالة تدخل في اختصاص التحليل النفسي والمقاربة الإكلينيكية.
– تبدو هذه المرحلة عصيبة، لأنّها تشكل منعطفاً حاسماً في التاريخ السياسي العربي، في معادلة الصراع التي تبدو من جنس معادلة الدرجة الثانية، والبحث في الحل يتعلّق بمجهولين، نتحدث عن الأحداث في الأراضي المحتلة، في سورية والعراق ولبنان، قضايا ترسيم الحدود، القمة العربية، عودة حماس إلى سورية، الاحتجاجات في إيران، العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وقضايا أخرى تأتي تباعاً.
– للعملية العسكرية الروسية آثار باتت واضحة أكثر مما سبق، سعى الغرب ولا يزال، لفرض حصار على روسيا، لكن يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين هو من فرض حصاراً على الغرب، ومظاهر هذا الحصار واضحة: ترشيد نفقات الطاقة، هذه الحرب لم تجعل باريس مدينة الأضواء، انتهى عصر الرفاهية الطاقية، طوابير طويلة على مداخل المتاجر في لندن، انهيار الدولار واليورو، أزمة قمح وطاقة، يقولون إن موسكو تورطت في هذه الحرب، كلام نسمعه تأتأة من بعض الأغبياء، والحقيقة هي أنّ الغرب تورّط في الاستخفاف بروسيا وتجاوز الخطوط الحمراء.
– ليس هناك من مخرج أمام هذا الوضع، سوى الدخول في مرحلة المفاوضات، وهو أمر تأخذه موسكو بعين الاعتبار، فالغرب يريد إنهاء الحرب من دون الاعتراف بأنّ موسكو هي التي تملك مبادرة الحرب أو السلم.
– ولاسيما بعد بروز الحاجة الروسية للمُسَيَّرات الإيرانية، وبينما الإعلام الغربي بما فيه الإعلام العربي المعادي لطهران، يتحدّث عن خطورة هذه المسيرات، نسوا أن يصححوا خطأ مزمناً، لطالما اجتهد بعض الخبراء العرب على وسائل الإعلام إياها بلا كلل، بأنّ ما تنتجه إيران من أسلحة هو خردة وبروباغاندا لا يمكن أن يغير قواعد الاشتباك، وذلك قبل أن تظهر آثار هذا التحول في قواعد الاشتباك، وقبل أن يجتهد الإعلام المذكور في تهويل أمر المسيرات الإيرانية، ففي نهاية المطاف، نحن أمام عبثية الإعلام الغربي ورديفه العربي، الذي لا ينقل لنا الحقائق التي تجري على الأرض، إنما ينقل لنا وجهات نظر الخطّ التحريري لهذه القنوات التي طلّقت الحقيقة وتمسّكت بالوظيفة العميقة للإعلام، كحرب، والحرب خدعة، فالإعلام خدعة.
-استيقظت إيران على موجة من الاحتجاجات، هذه المرّة على إثر حادثة وفاة فتاة في مخفر الشرطة الأخلاقية على خلفية الحجاب، الجوانب التقنية التي تتعلق بالتحقيق في موضوع الوفاة حتى الآن تؤكد أنّ الوفاة لم تكن نتيجة تعذيب، هكذا أخبر الطبيب، وفي تضارب آراء، يبدو الوضع صعباً من نواحٍ كثيرة.
-حتى الإسلاميون، كما رأينا بنكيران يستعرض فقاهة غير محترفة في المزايدة على إيران بخصوص الحجاب، وقفوا موقفاً لم نجد له مثالاً حين كانت طالبان تقود المرأة للمذبحة وتخرجها من المدارس وتجلدها في الأسواق، بنكيران نفسه، له سابقة داخل البرلمان حين ناهض فتاة صحفية بسبب لباسها، لم تكن له يومها سلطة ولا قانون للتجريم، ماذا لو كانت لهم سلطة؟
-مرد الإخوان على تقليد مغرض، يشبه البيع على بيع الآخرين، ينخرطون في هجاء إيران ليبرزوا أنفسهم كالجهة الأكثر انفتاحاً وعقلانية ومقاصدية لدى الغرب.
-في كل هذه الهمروجة، كان الغرض هو تحريك المسألة النسائية في إيران، المسألة التي تعيدنا إلى الموقف الفرنسي التناقضي، ليس فقط من حيث إنّ تجريم فرض الحجاب يمنح الحق لتجريم منع الحجاب، بل إلى حادثة مقارعة ميشيل فوكو وهو ينافح عن الثورة في بداياتها، أججوا النسائيات الفرنسيات، قبل أن يجيبهم فوكو بأنّ هذا رأيه، فهم يضغطون عليه ليتبنى رأيهم.
-ومع ذلك، لا يوجد في إيران حجاب بالمعنى الذي يتصوره الرأي العام العربي والدولي، ولا القانون تمّ تنفيذه منذ تم تشريعه كمظهر من مظاهر الحكومة الإسلامية، لكن من يتجول في طهران سيكتشف أشكالاً من التكستيل مع بروز ظاهرة أنواع من الألبسة التي لا تسمى حجاباً، إن لم تكن بالمنظور الغربي نفسه تعدّ لباس إثارة.
-أمّا تشادور، فهو لباس المنطقة التقليدي، وهو في إيران لباس عرفي ليس مفروضاً كما تقول وسائل الإعلام الغربية، بل هو أشبه ما يكون بلباس رمزي يشبه «الملحفة» لدى ساكنة الصحراء، وهو فوق كل هذا بات رمزاً للثورة النسائية على العهد السابق، حيث فرضت الحكومة الإيرانية حضوراً للحجاب، وكان ذلك تأثّراً بمنهجية أتاتورك بتركيا، والتي استعادها الشاه وبرزت جلية في كتاب الثورة البيضاء، بات تشادور رمزاً للمرأة الإيرانية الثائرة الحرة، لكن التحول من جيل لآخر هو مطية لاختراق الذهنيات، التشادور هو لباس لمن تؤمن به، فلِمَ كل هذا الخلط؟
-يتجاهل الإعلام الغربي والعربي المعادي لطهران بأنّ حوادث إزهاق الأرواح في المخافر، لا يخلو منها بلد في العالم، بل هناك ما هو أنكر من ذلك، كما أنّ تسييس قضية الفتاة، هو استغلال للمرأة في تصفية حسابات جيوستراتيجية مع بلد يعتبر الغرب عدواً.
– هل من سوء حظّ إيران أن بعض بلدان الخليج رفعت بطريقة ممسرحة قانون فرض الحجاب في سياق تدبير الاحتجاج داخل إيران بسبب الحجاب؟ إنه واقع سوريالي بالفعل.
-لكن ما يتجاهله هؤلاء، هو أن وضعية المرأة في إيران متقدمة بمسافة فلكية عن كلّ البلاد العربية، من حيث حضورها ونسبة تواجدها في قطاعات حيوية فالمرأة في إيران تسوق سيارة الأجرة كما تسوق الطائرة، ولا يوجد مرفق ممنوع على الإيرانيات اللائي وصلن منصب نائبة الرئيس، يجهل هؤلاء بأن المرأة تكاد تكون الحاكم الفعلي، لما باتت تتمتع به من تطور على صعيد الأحوال الشخصية والحقوق السياسية والمدنية.
– يتجاهل معظم هؤلاء إن لم نقل يجهلون بأن نسبة 75 في المئة من الجامعيين في إيران هن من النساء و60 في المئة من المناصب الحكومية تتولاها النساء، وعدد كبير من السفيرات، وعدد من النائبات في مجلس الشورى يتجاوز عدد رجال الدين كما صرّحت مرة صحيفة «أوف تايمز إسرائيل» في عدد 1 تموز 2016، ولا أحد سيعزل المرأة في إيران وهي جزء من الثورة، بل تمتلك سلطة الحشد النسائي وهي منظمة بلغ عدد أعضائها 10 ملايين داخل قوة الباسيج عام 2021، كما جاء في تصريح لرئيسة المنظمة مينا بياباني، شاركت المرأة في معظم المنافسات الرياضية الدولية، وحصدت ما يفوق 160 ميدالية، بعض أنواع الرياضات غير الموجودة في البلاد العربية، تفوقت فيها المرأة الإيرانية، هذا جانب بسيط يؤكد وجود مبالغة، استغلال المرأة الإيرانية في تأجيج الشارع، لكن هؤلاء يجهلون أن هناك شريحة مليونية من الشارع مستعدة دائماً لتخطيء الحسابات.
– الحديث عن وجود تمييز ضد المرأة في إيران أمر مثير للسخرية،و لاسيما إذا انطلق من البلاد العربية، يكفي أن المرأة فقط وبفضل الدستور الجديد بعد الثورة استطاعت أن تصل مواقع سياسية متقدمة، هل سأل هؤلاء مرضية وحيد وزيرة الصحة أم معصومة ابتكار نائبة الرئيس للشؤون الاجتماعية والمرأة أو مرضية أفخم الناطق باسم وزارة الخارجية السابقة؟
– لا توجد مفارقة أكبر من دول رجعية تحتل فيها المرأة أسفل الشرائح الاجتماعية من حيث الحقوق، ترفع شعار حقوق المرأة في إيران، ربما هناك عدد كبير ما زال يخلط بين إيران وطالبان، ثمة بلا شك مشكلات داخلية محل نقاش ونزاع داخلي، لكن هناك تشويش يجعل مهمة النقاش العمومي الداخلي صعبة، ولاسيما أنّ خصوم إيران لا تهمّهم المرأة الإيرانية، لأنّهم في مقام الهجاء في تاريخها الثقافي والديني والسّلالي يقضمون كل حقوقها، هذه المرأة الإيرانية التي تدعو وسائل إعلام وهابية لتحررها، حتى لو خلعت حجابها، وهي على الأغلب تخلعه وفق أنماط من اللباس خارج شروط الحجاب التقليدي، ستظل فارسية متهمة بخلفيتها الصفوية أو المجوسية أو الشيعية، فليس الشيء الوحيد المنبوذ هنا هو قانون الحجاب، بل كل ما هو إيراني هو محل استهجان.
– الاحتجاجات الأخيرة كسابقاتها، نوبات تحمل بذور فشلها معها، لأنّها تخرج عن أهدافها لتصل إلى ما به يتم الضغط على إيران في مفاوضاتها النووية والدفع بها نحو الاستسلام، وهذا يكفي لجعلها احتجاجات فاشلة، والشعب الإيراني يحتوي على متعلمين وسياسيين وقادة مجتمع مدني وما يكفي لأن يجعلهم مستغنين عن أشكال التضامن المستبلد للإحساس والمستخف بالحقيقة.
-لطالما تضامن عرب كيديون مع منظمة خلق التي تقودها مريم رجوي التي تلبس الحجاب، على رأس تنظيم مؤلف من النساء بحجاب موحد أكثر صرامة من الحجاب العرفي الذي ترتديه المرأة الإيرانية داخل إيران، وهو حجاب صارم وموحد ومفروض، المسألة إذاً تتجاوز موضوع الحجاب، وتهدف إلى زعزعة استقرار بلد يتمسك باستقلالية قراره، ليس أدل على ذلك من التفجيرات التي استهدفت بعض المزارات في شيراز، في مناخ من الشحن الطائفي، لا أحد يبكي ضحايا العنف والإر*ه*اب داخل إيران، ثم نستمر في الحديث عن الأنسنة.
– حكومة جديدة في العراق من شأنها التخفيف من قلق المجتمع، وإنهاء حالة الاحتقان، تعقيدات العراق جدّية، والعملية السياسية تعاني من تحديات داخلية وخارجية، ففي نهاية المطاف لا بدّ من حكومة، وفي العراق لا مجال لمزيد من التّأخير.
– في لبنان، التقسيم حدث كبير، وغياب حكومة سياسية توافقية يجعل الحدث الكبير مجرد عارض صغير، الحكومة القادمة باتت ملحّة، فلقد أحسنت الأطراف فنّ التصعيد، فهل يا ترى أتقنت فنّ التوافق والتنازل فيما لا مشاحة في التنازل عنه؟
– في الأراضي المحتلة، هناك إصرار شعبي على مواصلة الكفاح بأشكال مختلفة. تسعى الفصائل إلى أن تكون تعبيراً عن إرادة الشعب، الفصائل تنطوي على خلافات كبيرة، هذا طبيعي في وضعية فلسطين التي تتعرّض لأشكال من أساليب الحصار ومحاولة التصفية، ما يهمّ، هو أنّ الكفاح الفلسطيني مستمرّ، وعليه أن يستمرّ، والأهم هو تحرير القضية الفلسطينية من سماسرة النّضال بالمراسلة، وما أكثرهم على امتداد الساحات العربية.
– سورية تتقدّم في سياق حافل بالمفارقات، لكنها تسير على الطريق السيار للمنتصرين، العدوان الإسرائيلي، تحت عناوين شتّى، هو عرقلة، هو عند البعض عدوان، وعند خصوم سورية، ولا سيما المعارضة التي تزعجها صورة سورية الممانعة، تعتبره خدمة لدمشق، يحار المرء وفق أي إيساغوجي يمكن إقناع المعارضة السورية بأنّها تضرب أخماساً بأسداس.
– الحدث الأبرز في سورية هو عودة حماس إلى دمشق، عودة أو هكذا قيل في وسائل الإعلام، ما زالت في مقطع المشترك الذي يفرض نفسه في سياق دقيق، حيث التأم وفد الفصائل الفلسطينية ليتوجه إلى دمشق، المفاوضات التي جرت من قبل، هي لإقناع سورية بأن تصفح، ولسنا هنا إزاء مفاوضات، أمّا الوسيط فهو يتحرّك بروح الإيجابية خارج منطق الكيد، وتلك روحانية سياسية يجهلها الكثيرون، وأعتقد أنّها ما زالت محل جهل عند العديد ممن تنقصهم السياسة والكياسة والبصيرة.
قلت مازالت في البداية، لأنّ الأمر يمكن فهمه من ثلاث زوايا:
1- زواية التمثيل، حيث ترفض القيادة السورية التعامل مع المكتب السياسي حتى الآن، وتؤثر التعامل مع حماس- المقاومة.
2- زاوية السياق، حيث حضرت حماس ضمن وفد الفصائل وليست وحدها
3- زاوية البروتوكول، وهذا ما لم تقشعه العيون، انظر حيث يجلس نخالة، وكان بإمكانه أن يجلس على يسار الرئيس، ففي العادة هناك مقعده، فلو قعد هناك، لكان محاذياً للحية، لكن بين الأسد والحية جلس نخالة.
وعموماً كان اللقاء حتمياً، ومن المأمول أن يتطور أكثر، فالسياق يقتضي كل ذلك، لكن قولي هذا، في سياق الإشارة لعدد من المواقف والمقالات التي تناولت هذه الخطوة، من قبل مجموعة من الدعاة المقربين من حماس، يتحدثون كما لو أنّ دمشق هي من سعى لذلك، أو كأنّ حماس ستمنح قوة لدمشق وقد خرجت منتصرة، وسمعتها غير لائقة بالفعل كما يرى هذا الرهط، ولكنها كذلك غير لائقة للاحتلال ومن يدور في فلكه.
-كل النقاش الذي وقفت عليه، هو غير محترف وكيدي بامتياز، وعصبي وثأري، لا من حيث الدين ولا الدنيا، لا من حيث فقه السياسة ولا فقه الحياة، تكمن المغالطة الأولى في قولهم بلسان واحد بأنّهم يتعاطون مع سورية في إطار المقاومة وليس المبادئ، والعكس هو الصحيح، فسورية هي من وضع شرط التعامل مع حماس على أرضية المقاومة لا غير، فهي قبلت بها لا لخصوص مذهبها الديني، بل لخصوص انخراطها في المقاومة، وهي المعنية بالسماح والصفح كما قلت، كما أنّ النقاش كان دائماً على مستوى السياسة، لقد صرّح الرئيس بشار الأسد مراراً بأن موضوع عودة حماس إلى سورية قرار الشعب، وعلى هذا الأساس، تنتظر حماس أن تكون في حماية الدولة السورية.
-بعض القراءات الملتبسة تذهب إلى أن حماس ستنقذ سورية من سمعتها الراهنة، وهم بذلك يستصحبون سمعتها في الدوائر الغربية المتواطئة مع حملة التشويه، وهذا هُراء، لأنّ سورية هي من يمنح صفة مقاومة للآخرين وليس العكس، فسورية آخر من حارب على الجبهة، وهي دولة مواجهة.
– شكلت زيارة ممثل حماس ضمن الفصائل ردود فعل وصدمة لدى عدد من رموز الإخوان مشرقاً ومغرباً، فرئيس المجلس الإسلامي أسامة الرفاعي الذي ظهر إلى جانب هنية، برر ذلك بمحاولة ثني حماس عن تطبيع العلاقة مع سورية، الرفاعي كان من رموز المشيخة السورية، لطالما تمدح بالأسد قبل أن يقلب المجن.
آخرون من سنافير التضليل تمططوا كثيراً، واستعملوا عبارات توحي بالموضوعية، في مفارقة بهلوانية، حيث يعتبرون موقفهم مقبولاً عربياً ودولياً، كما لو أنّهم اكتسبوا العالمية، الإعاقة الذهنية تكمن هنا في أنهم غير قادرين على أن يتناولوا موضوعات سياسية من دون الولوغ في نقاش طائفي، نحن أمام حالة إسقاط مهولة، وكأنّهم إذ يثيرون حفيظة إيران يقدمون أنفسهم للعالم كما لو كان العالم من الصين حتى هايتي، هو من أهل ملتهم، في نوع من الهذيان يصبح مفهوم الأمة مختزلاً في مذهب، هذا ما سنجده في كتابات من لا يحسنون الحديث عن المنطقة إلاّ بعقدة الثباتية الطائفية، هناك اثنان لم يعبّرا بعد عن رأيهما، وهو ما يؤكد على الصفعة الاستراتيجية لهذه العودة، أعني رضوان السيد ونظيره أبو يعرب المرزوقي، حدث كهذا على الأقل سيزيد من خبالهما، لكن في قراءة الريسوني، محاولة لوجود مخرج لتكييف مواقف الأمس باليوم والنجاة من التشقلبات البهلوانية في منحدر السياسة، وإلّا ماذا يعني قولهم إن موقف حماس اجتهاد سياسي لا ديني؟ ما الجدوى من ترديد هذه البلادة، ونحن ندرك أنّ الأمر من البداية هو سياسة، أليس ما فعلوه بالأمس هو سياسة؟ لماذا طرق الباب وقول: مين؟ لكن وجب قراءة ما يخفيه الآخرون فيما يظهره، فهو يعتبر سلاح إيران للمقاومة ثابتاً، ولكنه كأي سلاح آخر من الصين أو غيرها، لكن يتجاهل أن السلاح الإيراني مختلف حتى عن الصين وكوبا وما شابه، لأنّ لا أحد يمنح سلاحاً للمقاومة من العرب أو العجم، وهو مصر أن لا نسيء الظن بحماس بقد تأكيده على تجريم إيران وتجريم الدولة السورية، كما يعتبر أنه قرار واجتهاد سياسي لا مبدئي، لكي يقول بطريقة أخرى إنّ العلاقة مع هذا الرهط هي براغماتية وليست مبدئية، لأنّ لا ثقة في أولاد عتيقة. الدروس التي يعطيها الريسوني في مجال المقاومة توحي للذين لا يعرفون تاريخ الخطاب عندنا، أننا أمام مشروع فدائيين وليسوا تياراً براغماتياً له مع التطبيع حكاية، منذ أفتى بجواز السفر إلى الأراضي المحتلة والترشح في الكنيسيت، وأيضاً القيادي في حزب استضاف برونشتاين، مستشار رابين السابق في أحد مؤتمراته، كما قاد التطبيع بإمضاء أمينه العام وفقاً لفقه المقاصد.
لن أتحدث عن تفاصيل مقالة مثقلة بحيل الخطاب غير المغني للّبيب، فلو خاطرنا في منازلتها سياسياً وفقهياً، سنصاب بالغم والهمّ، تلك نصوص بالفعل يورث التعاطي معها النوراستينيا والذُّهان، عظم طائفي يتلاحسه المرتزقة وأنصاف المثقفين وأرباع الفقهاء وتجّار “المقاشد”.
-المقالات سابقة الذكر ومواقف أخرى للشنقيطي والددو والخطيب وآخرين، لا تخرج عن الموال نفسه، مغالطة الاختزال الطائفي، تمجيد الذّات وهجاء الآخر، وبعد سنوات من تمجيد المصلحة والبراغماتية حتى في سياق معانقة الناتو، أصبحوا يهاجمون فقه المصلحة حين تعلق الأمر بمحور المقاومة.
– أكبر خدعة عرفتها العُشرية الأخيرة، هذا الزخم من العناوين، أفواج من المفتين والخبراء السياسيين، من حقل الدروشة إلى حقل تحليل الخطاب، مفاهيم كالكرة الطائرة، بيئتنا غير جادّة في الدين ولا في الدنيا.
-ألا يدرك هؤلاء بأنّ إيران لو فكرت بالطريقة البراغماتية والقومية، لتحالفت مع الغرب وباعت هذه الحثالات في السوق السوداء بكولورادو بأبخس الأثمان، وبسطت سلطانها على الخليج العربي والشرق الأوسط من دون وجه الرأس.
– وعلى هذا الإيقاع، ستأتي القمة العربية، على نوتة «قمم قمم ..» للشاعر الراحل مظفر النواب، المعضلة بنيوية، وآليات اشتغال جامعة الدول العربية ملتبسة، هي من ناحية أرثميتيكية تساوي جُماع بلدان عربية فاقدة للسيادة وللوضوح في السياسات، فهل يا ترى، ستحقق القمة ما لم تحققه قمم سابقة؟ نعم من حقنا أن نحلم ونتمنّى، لكن تجريب المجرّب يضعنا في خانة الأمم التي لا تستفيد من التّاريخ.
– نعم من حقنا أن نحلم بأن قمة كهذه ستسفر عن مخرجات ثورية، منها على سبيل المثال، الارتقاء بالعمل العربي المشترك، الدفع بالتضامن العربي إلى نهايته، توحيد الموقف من القضية الفلسطينية، التنمية العربية وخلق سوق عربية للتحرر من اقتصاد النذرة، أخشى أن تكون هذه القمّة عبارة عن مزايدات سياسية، وتشنيعاً، وبكائيات، وإعادة إنتاج الموقف التقليدي نفسه لواقع عربي متشظٍّ. لا أريد أن أستبق الأحداث، ولكن حدسي السياسي يقول لي إنّ أمراً مفاجئاً ستسفر عنه هذه القمّة، قد يكون فيه شيء من الإيجابية، لكنها إيجابيات ستزعج الكثيرين.
– لم يهذّب بعض العرب من طريقتهم في العمل، ما زالوا أهل كيد، مشّاؤون بنميم من دون وجه حقّ، لا يأتون الحقيقة من أبوابها، بل يفضّلون الوشوشة والتعاطي في مجاري المياه كالجرذان، تراجع مهول في الشهامة وثقافة الفرسان، النضال تجارة، الوفاء غباء والتحايل فهلوة، ما بال القوم تحوّلوا إلى ثعالب الفنيك؟ ما بالهم تذاءبوا وتضفدعوا وتكلبنوا؟
الأقرف من كلّ هذا هو أنّنا نعاند، نتمسك بالصورة النمطية، عجز عن التقدم في تدبير الآخرية في المجتمع والإقليم، هناك ذُهان عصباني ما زال يتحكم في السُّلالة المنتشرة على هذه الامتداد العربي: التآمر، أحكام القيمة، المزايدات، الطعان، العدوان، موت الضمير، التبشيع والتهويل، الاستهتار والتهوين: ويل للعرب من شرّ قد اقترب…