عن سقوط تراس وعن بديلها أيضاً
تشرين- عبد المنعم علي عيسى:
خلال يومي 15 و16 من شهر تشرين الأول الجاري كان مجلس العموم البريطاني يشهد نشاطاً سياسياً محموماً بين أعضاء حزب المحافظين الذي يشكل نوابه الـ 356 أغلبية في ذلك المجلس، والنشاط إياه كان محاولة لإيجاد مخارج قانونية تتيح للحزب الخروج من المأزق، الذي وجدت ليزا تراس، رئيسة الحزب ورئيسة الوزراء، نفسها فيه بعد أقل من 40 يوماً من توليها منصبها الأخير خلفاً لبوريس جونسون الذي كان أحد ضحايا التصعيد الذي اعتمدته حكومته تجاه العملية العسكرية الروسية الراهنة في أوكرانيا، وارتداداته على النسيجين الاقتصادي والسياسي البريطانيين.
كانت خيارات النواب ضيقة، فاللجوء إلى الضغط على رئيسة الحزب بغية الاستقالة من منصبها الأخير تمهيداً لاستقالتها من منصب رئاسة الوزراء دونه موانع كبرى من نوع أن «الهيبة» ستصبح في الميزان، ناهيك بأنها ستصيب «سمعة» المحافظين بعطب سوف يلحق بأي حكومة لاحقة قد يقوم الحزب بتشكيلها مستقبلاً، ثم إن التخلي عن تراس، التي لم تتم أربعينيتها آنذاك، كان يبدو أمراً صعباً لأن الفعل لا يتيحه النظام الداخلي للحزب الذي يقول بوجوب أن يقيم رئيس الحكومة عاماً كاملاً في منصبه كحد أدنى قبيل اللجوء إلى فعل من هذا النوع، أما خيار اللجوء إلى انتخابات مبكرة فدونه الكثير من المحاذير والكثير أيضاً من «تقليب المواجع»، فاستطلاعات الرأي كانت تشير إلى أن حزب العمل المعارض سوف يتقدم أقله بثلاثين نقطة على المحافظين إذا ما أجريت الانتخابات راهناً، وهذا مؤشر قد يتعدى الأداء السياسي ليندرج في سياق الانكسار الأيديولوجي، وعليه فإن «المقامرة» سيكون من شأنها أن تعيد تجربة عام 1992 التي أدت إلى خروج هؤلاء من السلطة لفترة مديدة استمرت ثمانية عشر عاماً متواصلة.
من جهة أخرى كانت الانهيارات تتسارع عبر الصدمات التي شهدتها الأسواق والتي كانت محصلتها قد تمظهرت بهبوط حاد في سعر صرف الجنيه الإسترليني ليصل إلى أدنى مستوياته التاريخية، فيما جاء التشخيص ليقول إن الأسباب الكامنة وراء ذلك تعود بالدرجة الأولى إلى الاستراتيجية الاقتصادية التي انتهجتها حكومة تراس وفي الذروة منها التخفيضات الضريبية للشركات الكبرى والأثرياء الممسكون بمفاصل الاقتصاد المهمة.
كان التسارع سابق الذكر قد أفضى إلى حال من الاحتقان في الشارع الذي باتت أغلبيته ترى في رئيسة الوزراء شخصية فاقدة للكفاءة والقدرة على إدارة كفة المركب الذي بدا مهدداً بتلاطم الأمواج التي راحت حركتها تتسارع بشكل يهدد بمخاطر أعتى.
لم تمهل دوائر صنع القرار في الحزب، الذي نقصد به هنا حزب المحافظين، رئيسة الحزب والوزراء، طويلاً على الرغم من كل المحاذير الواردة أعلاه، الأمر الذي يبين من خلال تقديم الأخيرة لاستقالتها يوم الخميس 19 تشرين الأول الجاري، ومن خلالها تبدت الكثير من مكامن الضعف التي تعتري حزبها، إن لم يكن التركيبة السياسية للكيان الذي كانت تديره حتى هذا التاريخ الأخير، ففي خطاب الاستقالة، الذي ألقته من خارج «10 داوننغ ستريت» مقر الحكومة البريطانية، لم يكن بجانبها سوى زوجها وسط غياب تام لمعاونيها ووزرائها الذين يدعمونها، وللأمر، الذي يمثل سابقة، دلالاته التي لها علاقة بـ «السمعة» و«الهيبة» و«العراقة» التي يحرص الكيان على إظهارها حتى في أحلك الظروف والمناسبات، ناهيك بأن الخطاب القصير كان قد اقتصر على جمل بسيطة بعضها غير مترابط وهي في مصباتها تنحو في اتجاهات شتى.
تحطمت تراس في غضون 45 يوماً فقط من وصولها إلى سدة السلطة في بريطانيا، ولعلّ الموضوعية تقتضي القول إن الفعل لم يكن ذا أبعاد ذاتية لها علاقة بالشخصية وما تتبناه من رؤى وأفكار ومشاريع فحسب، بل تتعلق بنظرة موضوعية لها علاقة بالضعف البنيوي الذي يعتري الكيان البريطاني ككل منذ أن ساد نظام القطب الأوحد الأمريكي فأضحى كياناً «ذيلياً» له، ثم جاءت «بريكست» التي أدت إلى خروجه من الاتحاد الأوروبي لتعري مكامن ذلك الضعف، فالفعل وبكل المقاييس كان من المحتم أن يشهد ارتدادات له من النوع الذي تشهده البلاد منذ ربيع وصيف هذا العام.
مكمن آخر يمكن تلمسه عبر إعلان لجنة 1922 في حزب المحافظين يوم الإثنين الماضي أن ريشي سوناك هو خلف تراس بمنصبيها في الحزب وفي رئاسة الحكومة، فالرجل ذو الأصول الهندية والذي شغل في السابق منصب وزير المالية، والفعل في بعده الأعمق يمكن النظر إليه على أن الأزمة اتخذت مسارات أكثر حدة، ولسوف يكون للحدث، فيما لو أضحى واقعاً، تداعيات مهمة على المستويات كلها.. صحيح أنه سبق لأشخاص عدة من أصول غير بريطانية أن تربعوا في مناصب رفيعة، لكن رأس هرم السلطة لم يشهد ذلك التربع على الإطلاق، إذ لطالما كان «المسكوت عنه»، الذي يهمس به في دوائر صنع القرار الضيقة، يعد فعلاً من هذا النوع من المحرمات، أو من الأدلة على دخول «جبل الجليد» مرحلة الذوبان التي تترك آثاراً خطرة على السفوح القريبة منها.