إن عُرف السبب بطل العجب.. ثغرة تأمينيّة وراء تسرّب الموظفين.. و«التأمينات الاجتماعية» تستعد لزيادة الاستثمارات وتعديل التشريعات
تشرين- بارعة جمعة:
لعلها ثغرة في قانون التأمينات، أو ثمة من يرى لها تسميات أخرى، ما حدا بأعداد كبيرة من الموظفين لتقديم استقالاتهم من الوظيفة العامة، وبشكل تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بطرق تحتمل ألف تأويل وتأويل.
فالموظف بعد أن يمضي 25 عاماً أو ثلاثين عاماً في العمل الوظيفي، وأمام الراتب المسقوف يصبح الفرق بين راتبه الشهري فيما لو تقاعد أو بقي في العمل قليلاً جداً، لذا كان خيار التقاعد المبكر للبحث عن عمل آخر، إضافة إلى الراتب التقاعدي خياراً مجدياً اقتصادياً في الحسابات المعيشية.
وتشكل الظاهرة تحدياً للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، من خلال الازدياد المفاجئ بأعداد المتقاعدين على حساب عدد العاملين، بالتالي تختل المعادلة التي تقوم على أن العاملين والاقتطاعات التي تستوفى منهم ومن صاحب العمل هي مصدر لتمويل رواتب المتقاعدين.
المشهد يبدو متداخلاً بالفعل، ويحتاج إلى استدراك لأن الحلول ممكنة ربما وليست صعبة إلى الحد الذي يتصوره كثيرون.
خسارة مزدوجة
بالرغم مما تعرضت له المؤسسات من انقطاعات، وضعف تزويدها بالكوادر ضمن فرص التوظيف المقدمة، لاتزال الإحصائيات المقدمة من التأمينات الاجتماعية تؤكد زيادة عدد الموظفين على المتقاعدين، حيث بلغ عدد موظفي القطاعين العام والخاص المؤمن عليهم قرابة 1.894.330 موظفاً، يقابلهم 503.086 من المعاشات التقاعدية و216.609 من أعداد المستحقين من الورثة للمعاشات التقاعدية، مع الإشارة إلى أن الحرب أدت إلى خسائر في هذا القطاع إثر اضطرار المؤسسة لتصفية المستحقات التأمينية للموظفين سواء كتعويض دفعة واحدة أو معاشات تقاعدية.
وضمن إطار التخفيف من هذه الخسائر، قامت المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بزيادة نشاطها في بسط المظلة التأمينية لتشمل جميع العاملين في كل القطاعات وبأعلى درجة من الكفاءة والمسؤولية، وذلك حسب تأكيدات مدير عام المؤسسة يحيى أحمد.
فالعودة التدريجية للفعاليات الاقتصادية، وشراء سيارات لدوائر التفتيش ومن ثم زيادة عدد المفتشين ليصبح العدد 85 مفتشاً بزيادة 45 مفتشاً خلال السنتين الماضيتين، ساهمت، حسب تصريح أحمد، في تسريع العمل وتحقيق نتائج ممتازة تمثلت بتسجيل 450 ألف عامل خلال السنتين الماضيتين.
تعديلات تشريعية
وفي إشارة من مدير عام التأمينات يحيى أحمد لـ«تشرين» عن مرور 60 عاماً على صدور قانون التأمينات الاجتماعية، وتعديله أكثر من مرة كان آخرها التعديل بموجب القانون رقم 28 لعام 2014، الذي أوضح ضرورة إعادة النظر بهذا القانون بحيث يواكب التطورات الاقتصادية والاجتماعية والاستفادة من تجارب الدول الأخرى في مجال التأمينات والضمانات لتوحيد التعديلات التي طرأت عليه بصك تشريعي واحد يسهل الرجوع إليه من جميع المعنيين، ولتلبية مطالب أصحاب العمل بما يخدم المصلحة الوطنية، وإضافة ميزات جديدة للعاملين المؤمن عليهم لدى المؤسسة، تم تشكيل لجنة برئاسة وزير الشؤون الاجتماعية والعمل لتعديل قانون التأمينات الاجتماعية.
ولمواجهة النقص الحاصل في صندوق التأمينات، تقوم المؤسسة باستثمار أموالها لدى المصارف على شكل ودائع مؤجلة وبفوائد جيدة، برأي أحمد، بما يحقق ريعية آمنة للمؤسسة، تضاف إلى ذلك خدمات اجتماعية كمنح قروض للمتقاعدين، حيث تم رفع قروضهم منذ بداية عام 2022 إلى مليون ليرة سورية، مؤكداً أنها عملية ناجحة تدعم المؤسسة مادياً ومعنوياً، حيث بلغ مجموع قروض المتقاعدين لعام 2021 قرابة 4299 قرضاً بقيمة حوالي 3.172.000.000 ليرة سورية، في حين بلغ عدد القروض الممنوحة لنهاية شهر أيلول من عام 2022م 5517 قرضاً بمبلغ إجمالي 6.794.903.220 مليار ليرة، في وقت تعمل فيه المؤسسة، حسب تصريح أحمد على تحصيل ديونها بالكامل من القطاع العام، عن طريق مخاطبة كل الوزارات بما فيها المالية، حيث بلغت ديونها على القطاع العام حتى 31/12/2021 مبلغ (192.153.641.861) ليرة سورية، ومن ثم مطالبة بوضع هذه الديون ضمن توصية اللجنة الاقتصادية برئاسة مجلس الوزراء لجدولة ديون الجهات العامة ذات الطابع الاداري بمعدل 8 مليارات شهرياً خلال عام 2022، وقد تم تحويل 71 مليار ليرة حتى تاريخه، ما سيعزز من استثمار المزيد من أموالها.
ملء الشواغر
وفي خضم هذه البلبلة التي يعيشها واقع العمل في البلاد، تبرز أهمية الموارد البشرية بصفتها المسؤول الأول عن ملء الفراغ في الهياكل التنظيمية للمؤسسات، وذلك ضمن مبدأ “الشخص المناسب في المكان المناسب” حسب توصيف الدكتور في علم الموارد البشرية هاني حداد.. لكن ما لم يتم النظر إليه هو واقع العمل المؤسساتي في ظل الحرب، التي وضعتنا أمام مشكلتين برأي حداد، أولاها امتلاك المؤسسات الخاصة لمجموعة أشخاص من ذوي الكفاءات العالية جداً، ممن اضطروا للهجرة تاركين خلفهم شواغر عدة، تضاف إلى ذلك نسبة المتقاعدين في مؤسسات الدولة، ما حمّل الموظفين أعباء إضافية ومهام مضاعفة ما دفع بعضهم إلى ترك العمل.
وهنا يكمن العمل الرئيسي للموارد بوصفها القائم بأعمال التدريب والتأهيل للكوادر الجديدة باستقدام الخريجين، ممن يتسمون بالحماس للعمل من دون النظر للخبرة، التي ستأتي مع التدريب المتواصل، بهدف ضخ دماء جديدة لدى المؤسسات، والذي بدوره سيمثل دائرة الأمان للجميع ودرءاً لمساوئ خطر خروج العاملين من المؤسسات.
استثمار الموارد
وتشكل مسألة مواجهة الضائقة بالبحث عن اتجاهات ومسارب استثمارية تدعم صندوق التأمينات الاجتماعية وترفدها هي الأكثر إلحاحاً اليوم، برأي الخبير الاقتصادي عامر شهدا، فبمجرد العمل ضمن هذه الاستثمارات بدلاً من وضعها في البنوك كودائع مؤجلة ستمثل حلاً لمشكلة قلة الموظفين.
وإذا ما نظرنا للموضوع من زاوية الاقتصاد، فسنجد حتماً خسائر كبيرة ضمن مؤسسات تعليمية وخدمية فقدت الكثير من كوادرها أمام تراجع القدرة على الاستهلاك وضعف الدخل وتالياً تراجع الإنتاج، ما يُحمل الحكومة أعباءً كبيرة في تهيئة جيل جديد وبالخبرة نفسها، برأي شهدا، وفي حساب بسيط لسنين الخبرة وتكلفتها ومدة الاستثمار ومقارنتها مع جدوى زيادة الرواتب ستكون النتيجة متساوية.
خطط سابقة
إلّا أن الغريب حتى اللحظة، برأي شهدا، هو ما تم طرحه سابقاً من عام 2019 حول مئات المليارات التي وضعت ضمن الاستثمار، ورفع إنتاج الغاز، عدا استرجاع مساحات كبيرة من الأراضي قدرت ب800 هكتار ، متسائلاً: أين القيمة المحققة اليوم من هذه الاستثمارات؟ فما نعانيه اليوم لا يقتصر على القيام بدراسة الجدوى إنما نفتقر للجدية، داعياً إلى إنشاء صندوق دعم نقدي، وإعطاء الأولوية لرفع قدرة المواطن على الاستهلاك بضبط الأسعار، ودعم الموظف للبقاء في عمله ضمن كتلة خدمات على رأسها النقل الذي بات يشكل 25% من الدخل الشهري.
ولذلك ما نحتاجه اليوم هو حلول شاملة وليست جزئية، وإتاحة الفرص للخبرات ضمن حوار ونقاش لحل هذه الأزمات، لكون الحل يكمن بالمكاشفة وتقديم بيانات صحيحة لردم الهوة بين المواطن والحكومة.