“الديمقراطية والقيم الغربية” قصمت ظهر القارة العجوز
ميشيل كلاغاصي
مع استمرار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومن خلال ما أظهره القادة والساسة الأوروبيون من كراهية ونفاق وضعف وتبعية للولايات المتحدة الأمريكية، ومن محاولات التبرير الفاشل والبائس لحجم الدعم المالي والعسكري لحكومة كييف المتطرفة، والانخراط والانسياق الكامل وراء أجندة المخطط الأمريكي ضد روسيا، يطرح السؤال نفسه، حول مدى وجدوى الدعم الأوروبي لأوكرانيا، على حساب مصالح الدول الأوروبية، وهزّ استقرارها، واقتصادها، ونسف أمنها، والإطاحة بمكاسب مواطنيها، وطريقة عيشهم الكريمة، وإذلالهم واصطفافهم على الطوابير أمام محطات الوقود، وارتفاع أسعار الغاز والطاقة والسلع الغذائية، وإجبارهم على قضاء شتاء قاسٍ بلا تدفئة، أمورٌ بمجملها أثارت غضب الأوروبيين واستياءهم، وأجبرتهم على التخلي عن رفاهيتهم، ونزولهم إلى الشارع للمطالبة بإسقاط الحكومات، وزيادة الرواتب، وتمسكهم بفرص عملهم، ودعواتهم للخروج من الاتحاد الأوروبي و”الناتو”؟.
ماذا حل بقواعد النظام الديمقراطي الذي تتشدق به الحكومات الغربية، التي حصدت أصوات الناخبين عبر وعودٍ ورديةٍ كاذبة، استبدلتها بحروبٍ وحياةٍ قاسية صعبة، لم تعد شعوبها الأوروبية قادرة على تحملها ؟.
يبدو أن الدعم الأوروبي المتهور والأعمى لسياسات الولايات المتحدة في الصراع الأوكراني، لم يحسب حساب العواقب الاقتصادية والسياسية الوخيمة التي أطلقها بنفسه، وأوصلته بكامل هيكله السياسي إلى لحظةٍ حاسمة لا يمكن حلها إلاّ من خلال وضع خط النهاية لنظام الاتحاد الأوروبي، وبإيجاد تسويةٍ سياسية جديدة , وبناء هيكلٍ جديد، يضمن أمن القارة الأوروبية واستقلاليتها ومستقبلها.
لقد راهنت الدول الأوروبية على هزيمة روسيا، وإزاحة الرئيس فلاديمير بوتين، عبر استراتيجية التبعية المهينة والمذلة للاتحاد الأوروبي، الذي انخرط بكليته بحربٍ اقتصادية تبدو فاشلة وبلا فائدة، قادتها الولايات المتحدة ضد روسيا، من خلال العقوبات التي لم يسبق أن تعرضت لها دولة عبر التاريخ، وأدت إلى نتائج عكسية، أثرت بشكلٍ سلبي في المستهلكين والشركات الأوروبية، وتسببت بارتفاع فواتير الطاقة والتضخم العام، وكذلك بارتفاع احتمالات انعدام التدفئة ومواجهة البرد خلال هذا الشتاء، ناهيك بالأضرار الاقتصادية التي لم يعد بالإمكان إصلاحها على المدى المنظور، خصوصاً أن العقوبات، التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا، أدت من حيث النتيجة إلى إفلاس العديد من المصانع والشركات الأوروبية التي يرتبط إنتاجها بالطاقة، الأمر الذي أدى بدوره إلى تدهور الموازين التجارية، وتآكل كبير لليورو، وفقدان الوظائف، بما ينذر بعقودٍ سيسودها الركود الاقتصادي الحاد، الذي سيرخي بظلاله المخيفة على الحياة السياسية والاجتماعية، التي ستطول كل دول القارة الأوروبية.
لقد بات من الواضح أن كل قرارات الاتحاد الأوروبي الداعمة لأوكرانيا، التي اتخذها تحت عنوان “قواعد النظام الديمقراطي” و”سيادة القانون” و”القيم الغربية”، ووضعها عناوين ومبررات لرفض العملية العسكرية الروسية الخاصة، وادعاء عدم شرعيتها ومخالفتها للقانون الدولي، قد سقطت وسقط معها نفاق قادة وساسة الدول الأوروبية، والاتحاد الأوروبي، وأظهرت حقيقة ما يخفونه في صدورهم من كراهية دفينة منذ قرون تجاه روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي وروسيا الاتحادية اليوم، وحاولوا تبريرها بإقناع الشعوب الأوروبية بـ “الرهاب الروسي” القديم – الجديد، وأنه آن الأوان لاستئصاله، عبر هزيمة روسيا وتدمير اقتصادها وتفكيكها وتقسيمها.
كم من السذاجة يتطلبه الأمر، لقبول دفاع الأوروبيين عن نظام كييف، وهو الذي ارتكب المجازر بحق مواطنيه الناطقين باللغة الروسية على مدى ثماني سنوات، وتحديداً منذ الانقلاب الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية عام 2014، وعدم التزامه ببنود اتفاقية مينسك في عام 2015، وانخراطه في المخطط الأمريكي، وسط تجاهلٍ أوروبي لجرائم نظام كييف، والاضطهاد السياسي الذي مارسه بحق معارضيه، وتمادى في تعميم أفكار إيديولوجيا التطرف القومي، وبرعاية المجموعات والعصابات الأوكرانية الانفصالية الإرهابية، ناهيك بممارساته التي اعتمدت على منظومة فساد النظام والمجتمع، ومع ذلك تدعي الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي قيادتهما للمجتمعات الأوروبية في ظل “القيم” الأوروبية؟!.
لم يستطع الاتحاد الأوروبي تقديم نفسه كطرف مستقل في الصراع الأمريكي – الروسي، وحرم نفسه من أن يكون وسيطاً نزيهاً في مفاوضات السلام التي لا بد منها عاجلاً أم آجلاً، وتخلت الدول الأوروبية عن دورها ومكانتها الدبلوماسية التقليدية لمصلحة دولٍ أخرى، كتركيا والمملكة العربية السعودية، وسط احتمالية دخول دول أخرى على خط المفاوضات، الأمر الذي سيفرض على أوروبا ، كطرف رئيسي في الصراع، تقديم التنازلات مقابل السلام، وكذلك بات عليها الاعتراف بتراجع دورها ومكانتها الدولية، وأنها قارةٌ عجوز، كما وصفها وأرادها الأمريكيون أنفسهم.