صنّاع القرار.. في مناصبهم.. وماذا عندما يغادرونها؟
تشرين- عبد المنعم علي عيسى:
في الوقت الذي كانت تجري فيه مراسم التوقيع بالكرملين يوم الجمعة 30 أيلول المنصرم على انضمام لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابورجيا إلى الاتحاد الروسي ليصبح مواطنو تلك المناطق “روساً للأبد”، وفقاً للتوصيف الذي استخدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه الذي ألقاه بهذه المناسبة، كانت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل تلقي خطاباً في “غوسلار” بمناسبة مرور 1100 عام على تأسيس المدينة الألمانية، وفي ذلك الخطاب قالت بالحرف:” إن من الضروري مواصلة العمل على خلق هيكل أمني أوروبي مشترك، ويجب أن يتم ذلك بمشاركة روسيا”، قبيل أن تذهب إلى تقديم نصائحها للأوروبيين بضرورة “الانفصال عن أمريكا والتوقيع على اتفاقية شراكة مع روسيا”.
شغلت أنجيلا ميركل منصب المستشارة الألمانية، الذي يمثل رأس هرم السلطة في بلادها، لمدة 16 عاماً امتدت ما بين عامي 2005 و 2021، وتلك فترة مديدة شهدت ثلاث محطات روسية هامة كانت تنذر، بأثر تراكمي، بذلك الانفجار الحاصل بدءاً من 24 شباط 2022 فصاعداً؛ الأولى : في صيف العام 2008 الذي شهد العملية العسكرية الروسية في جيورجيا، والثانية : خريف عام 2014 الذي شهد حرب القرم وضم شبه جزيرتها إلى روسيا، أما الثالثة : فجاءت مع خريف العام 2020 الذي شهد تقديم موسكو “لائحة مطالب أمنية” للغرب الذي أشاح بوجهه عنها فاتحاً المجال لها للبحث في مدارات النار سبيلاً إلى تحقيق تلك المطالب.
في كل المحطات الثلاث السابقة لم يبدِ صانع القرار السياسي الألماني، الذي كانت ميركل في سدته، أي مؤشرات تقترب من المفهوم، والنصائح التي أبدتها ميركل يوم 30 أيلول المنصرم، ولعل ذلك يثير إشكالية هامة تتمثل في المواقف والرؤى التي يعلنها الساسة، ممن كانوا في رأس هرم السلطة، ما بعد مغادرتهم مناصبهم، وهي، أي تلك الإشكالية، تثير الكثير من الأسئلة وإشارات الاستفهام التي تتمحور حول سؤالين هامين: لماذا لم تكن تلك الرؤية حاضرة زمن اعتلاء المنصب؟، ثم لماذا لم يعمل هؤلاء بالنصائح التي راحت تسيل على ألسنتهم بهدف إيصالها لمن جاء بعدهم في حمل الراية؟، ففعل من هذا النوع، فيما لو ذهبت إليه ميركل وهي مستشارة بلادها، كان يمكن له، خصوصاً إذا ما لقي صدىً في باريس التي تمثل إلى جانب برلين محور استقرار ومركز ثقل القارة الأوروبية، أن يؤدي لتحولات وازنة في مآلات الأحداث التي نشهدها اليوم والتي قد تفضي إلى جنوح خطر ينذر به ذلك «السجال النووي» المنفلت من عقاله قبيل نحو شهر أو يزيد.
قد تكون الإجابة عن ذينك السؤالين غاية في التعقيد، فالمنصب له حمولاته التي تفرضها معادلات داخلية وأخرى خارجية، وهما بدورهما ينسجان منظومة هي الأخرى شديدة التعقيد، والحسابات التي تتأتى منها، أي من تلك المنظومة، غالباً ما تفرض قيوداً، وترسم هوامش حركة، لدى صانع القرار، من النوع الذي يحتم على هذا الأخير التعايش معها إذا ما أراد إطالة أمد «الجلوس»، وإذا ما أراد لحكمه أن يكون «هادئاً»، الأمر الذي يفسر في كثير من الأحيان ذهاب هؤلاء للإدلاء بتصريحات كانت، حتى الأمس القريب، من المحرمات عليه.
ينضوي أغلبية الساسة، وعلى مرّ مراحل التاريخ، تحت راية الراغبين بإطالة «أمد الجلوس»، والراية إياها تصيب «المنضوي» تحت ظلالها بأمراض سياسية شتى يصعب حصرها، لكن الأهم منها هو ذلك النوع الذي يجعل الرؤى لدى هؤلاء متباينة خلال فترة قصيرة، فيما دواعي التباين لا تتعدى تغير «المنبر» الذي كان يعبّر أولاً عن «صناعة القرار»، ثم أضحى بعدها منبراً أمام احتفال بالذكرى الألفية لتأسيس مدينة، أو الذكرى التي تزيد مئة عام عن تلك الذكرى.