ولادة نظام عالمي جديد!!
د. محمد سيد أحمد
مع انطلاق موجة «الربيع العربي» المزعوم في نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من الألفية الثالثة, كانت الولايات المتحدة الأمريكية تغرد منفردة على الساحة الدولية ولمدة عقدين كاملين, فمع تفكك الاتحاد السوفييتي رسمياً في 26 كانون الأول 1991 عقب إصدار مجلس السوفييت الأعلى الإعلان رقم ( 142-H) والذي تم فيه الاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفييتية السابقة, وإنشاء رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفييتي, أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن قيام نظام عالمي جديد أحادي القطبية بعد زوال الثنائية القطبية التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية واستمرت لما يزيد على أربعة عقود في ظل ما عرف بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي, وكانت الولايات المتحدة تسعى من خلال موجة «الربيع العربي» المزعوم إلى فرض مزيد من السيطرة والهيمنة على منطقتنا العربية ومحيطها الغني بمصادر الطاقة.
لكن دائماً ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن, فإذا كان المخطط الأمريكي الذي يسعى لتقسيم وتفتيت المنطقة العربية على أسس طائفية ومذهبية وعرقية حتى تستطيع التحكم في ثرواتها واستغلالها بشكل أفضل, ولتفسح المجال لحليفتها الصهيونية لتكون الكيان الأكبر والأقوى في المنطقة, ولتقضي على الجيوش الوطنية وخاصة الجيوش الكبرى التي تحدث توازناً في موازين القوى في المنطقة خاصة الجيشين المصري والسوري, فقد تمكنت مصر بفضل جيشها البطل وشعبها الواعي من إجهاض مخططات التقسيم والتفتيت حيث استخدم مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد جماعة الإخوان الإر*ها*بية لتحقيق أهدافه، وعندما ظن الأمريكي أنه قد دانت السيطرة لأدواته التنفيذية بعد وصولهم إلى سدة الحكم خرج الشعب المصري في 30 يونيو 2013 في أكبر تظاهرة عرفها التاريخ المصري مطالباً بعزل رئيس الجماعة الإر*ها*بية, وهنا كان انحياز الجيش واستجابته الفورية وحمايته للشعب حيث تمت الإطاحة بالجماعة الإر*ها*بية من المشهد برمته, وبذلك نجت مصر من مخطط التقسيم والتفتيت حيث كانت مصر هي الجائزة الكبرى ضمن هذا المشروع الأمريكي.
وكانت المفاجأة الثانية التي لم يتوقعها الأمريكي هي الصمود الأسطوري للشعب العربي السوري, حيث فشلت مخططات التقسيم والتفتيت.
فعلى الرغم من عبور آلاف الإر*ها*بيين وعبر كل الحدود سواء التركية أو العراقية أو اللبنانية أو الأردنية وتمكنهم من السيطرة في سنوات الحرب الأولى على مساحات كبيرة من الجغرافيا العربية السورية, ظن على أثرها الأمريكي بأن مخططه قد نجح وأن سورية أوشكت على الانهيار إلّا أن القيادة الحكيمة للرئيس بشار الأسد جعلته يقود تحالفاً إستراتيجياً مع روسيا الاتحادية الوريث الحقيقي للاتحاد السوفييتي السابق والتي ظلت طوال العقدين التي انفردت فيهما الولايات المتحدة الأمريكية بالساحة الدولية، ترمم نفسها وتعيد بناء ذاتها لتعود مرة أخرى قوى منافسة للولايات المتحدة, وعبر البوابة السورية تمكنت روسيا من العودة للساحة الدولية من جديد, ففي العام 2015 بدأت مرحلة الحسم ضد الإر*ه*اب على الأرض السورية, وتمكن الجيش العربي السوري بمساعدة الحليف الروسي من تجفيف منابع الإر*ه*اب وتحرير التراب الوطني والعودة مجدداً للسيطرة على الأغلبية العظمى من الجغرافيا المغتصبة, وعندما وجدت الولايات المتحدة أدواتها الإر*ها*بية تهزم على الأرض حاولت انتزاع قرار دولي بغزو سورية على غرار غزو ليبيا لكن فيتو روسيا كان جاهزاً دائماً في مجلس الأمن, وفي بعض الأحيان كان فيتو الصين ملاصقاً للفيتو الروسي ليصبحا “فيتو” مزدوجاً لمنع الأمريكي من تحقيق حلمه بتقسيم وتفتيت سورية.
وكان إجهاض مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد مؤشراً على ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، فإلى جوار الولايات المتحدة الأمريكية عادت روسيا الاتحادية من جديد الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي لتقول إنها قوى يمكنها أن تحدث توازناً في موازين القوى العالمية, وفي الوقت نفسه برزت الصين كقوى كبيرة لها ثقلها الاقتصادي على المستوى الدولي تهدد عرش الاقتصاد الأمريكي الذي تربع على الساحة الدولية منفرداً لفترة طويلة من دون منافس, لكن الولايات المتحدة الأمريكية قررت ألّا ترفع الراية البيضاء مبكراً.
لذلك حاولت ومازالت تحاول إجهاض مشروع ولادة نظام عالمي جديد, وذلك من خلال إشعال النيران في الحدائق الخلفية لكل من روسيا والصين, وبدأت باستفزاز روسيا عبر البوابة الأوكرانية وصبرت روسيا طويلاً حتى نفد صبر القيصر بوتين وقرر خوض المعركة مع الولايات المتحدة على الأرض الأوكرانية وهو يدرك تماماً أن هذه الحرب هي المحدد الرئيس للنظام العالمي الجديد, وعلى الرغم من أنه كان يعد بعملية محدودة إلّا أن الدعم الأمريكي والأوروبي لأوكرانيا أطال أمد الحرب, وحتى اللحظة تعد روسيا قد نجحت إلى حدٍّ كبير في تنفيذ ما سعت إليه, وما يؤكد هزيمة المشروع الأمريكي وعرقلة ولادة النظام العالمي الجديد هو صدور إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة خلال هذا الأسبوع والتي جاء فيها نصاً «إن روسيا خطر.. لكن العدو هو الصين»، ووفقاً لذلك يمكننا القول إن الأيام المتبقية من هذا العام ستكون حبلى بالعديد من المفاجآت على الساحة الدولية ما يبشر بنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب, اللهمَّ بلغت.. اللهمَّ فاشهد.