الكوميديا العربية.. هل ستحقق القمة العربية مخرجات وازنة؟
إدريس هاني
كنت سأصدق ذلك هذه المرة لو أنّ العرب كانوا مُقنعين بجدّيتهم السياسية، أو أنهم ملائكة تذرف دموعا بريئة، فتزرع الأرض صدقا وكرامة، أو أنّ المعضلة العربية آتية من خارج عشّ الدبابير العربية؟ لم يبق لنا سوى شرف ألا نسمح بأن يضحك على ذقوننا بُغاث العرب، فشرفنا الوحيد أن نخرج من وضعية” الاستبهام والاستحمار”. فما زالت السياسة العربية مقرفة، وعلينا أن ندقق في أسرار اللغة كما فعل الثعالبي، حيث المقرف هو الهجين، ما بين الحرّ والأمة، تماما كالبغل الذي يقع في الترتيب بين الفرس والحمار، وكذلك سياستهم، تبدو في قمّة استحمارها هجينة متبغّلة. فمازالت القمم العربية تتنكّر لميثاق الجامعة العربية، وتتنكّر أيضا لأحلام الشعوب ومنطقها وبداهتها.
هل سيلتئم العرب في القمة المقبلة، في سياق تردّ عربي، واختلاط الأوراق، وتصدّع الجسد العربي؟ هل من أمل يا ترى والعرب لم يدركوا أنّهم تحوّلوا إلى حالة كيدية مفتوحة، واصطفافات تناقضية، ودكاكين حوّلت النّضال إلى تمرين وصولي والقول الثوري إلى زعيق لاحن؟ أمازال يأمل هؤلاء بأنّنا قطعان قابلة أن تجدد يقينها في قمم تذكر الواحدة منها بالأخرى؟
في سائر القمم السابقة، كنا أمام روتين قممي، شكّل دائما محطّة لمزيد من التنابذ والتنافر. ذلك لأنّ العرب ولا سيما الأنظمة العربية، مازالت تبحث عن مكاسب قطرية بعيدا عن المصلحة القومية العامة. وهم في ذلك لا يتنازلون، بل هم في ذلك يتناقضون، لأنّه لم يعد في قنافذ العرب أملس.
حينما أقرأ قصيدة مظفر النواب “قمم”، أدرك كم يفصلنا نحن العرب عن الحلّ المنطقي لأزماتنا، على الرغم من آمالنا المتدفّقة على مساحة هذه الأمة التي خضعت ومازالت تخضع لألاعيب السياسة، التي تعني عند معظم العرب فرصة لإعادة إنتاج الأزمة.
سنستمع للكثير في هذه القمة، بل سنسمع شيئا عبرت عنه قصيدة قمم:
وتبدأ الجلسة
لا
ولن
ولم.
سنسمع طنينا، وشعارات، سندخل في سوق المزاد العلني، عنتريات ووقاحات، وفي النهاية وجب العود إلى مظفر في: القدس عروس عروبتكم، لنتدارك المزاد العلني:
“ما أوسخنا… ما أوسخنا… ما أوسخنا
ونكابر
ما أوسخنا
لا أستثني أحدا”.
في مسلسل القمم العربية، أو بالأحرى في السوق السوداء لبيع الأوهام، سننسى حتى الزمن الجميل لمّا كانت الأرض تتكلم عربيّا. هل بقي عند العرب رمق للإخلاص للقضية الفلسطينية؟ نسأل مظفر وهو يحمل زفير الأمّة العربية، يعبر عن يأسها وخيبة أملها، عن لعبة المُلاوغة، والأعماق الكئيبة للسياسات العربية:
حملتم أسلحة تطلق للخلف
وثرثرتم ورقصتم كالدببة
كوني عاقر يا أرض فلسطين
فهذا الحمل مخيف.
في أدب اليأس، تحتل قصيدة قمم مقام الذروة، فالعرب لم يحصدوا من قممهم سوى علف وقُمامة من المواقف الكيدية. يئسنا من قممهم قبل عشرات السنين، لأنها لا تأتي سوى بالوهم، فماذا يا ترى يستطيع العرب أن يفعلوا وقد تدحرجوا في الحضيض، كلّ بعنوان خاص في الانحدار.
تأتي القمّة العربية بعد عُشرية من الهمّ والغم، عشرية التآمر البين- عربي. تأتي القمة على إثر انهيار دول وقيام الفوضى، وتفكك كيانات وتمزق أنسجة اجتماعية، ونزاعات إقليمية. عشرية الإرهاب المتدفّق على بلاد أريد لها تحت عناوين شتّى ألا تقوم، في العراق وسورية وفلسطين واليمن ولبنان وليبيا والسودان وتونس وأخرى… هل ستعيد هذه القمّة الاستقرار والسلام للعراق؟ أم إنّها ستداوي الجرح السوري الذي تنكرت له جامعة الدول العربية؟ أم هل ستقدّم حلاّ غير شفوي أو غير ذلك الذي تنطق به قيادة الاحتلال في فلسطين عن حل الدولتين الذي أصبح كطواحين غير مزودة بالماء، سبق وتغنى بها نصري شمس الدين:
“يا مارق عالطواحين والمي مقطوعة
خايف لتدور الطواحين والحلواية توعى”.
قمم أشبه بطاحونة من دون ماء، ربما حتى الزمن الجميل للثرثرة ولّى “يامو”.
ثم ماذا في وسع قمّة عربية أن تفعل إزاء رحلة سيزيف العربية. هل يملك العربي اليوم أن يستخرج من القِمَطْر ميثاق الجامعة العربية، ويتهجّى ما فيه، وقد انتهكوه حتى آخر بند؟ أين التضامن العربي حين انقضّ العالم على سورية، وتآمر البعض فيما أكلت القطة لسان البعض، حاربت سورية وحدها، مفردة، وما عدا القوى الشعبية لم تجد حليفا عربيّا رسميا ما عدا العجم.
سيدخل العرب إلى القمّة وهم في حالة سخرية من أنفسهم، فهم يعرفون أنّهم يكذبون على أنفسهم. إنّ أعظم حدث سيكون في هذه القمة هو عدم حضور سورية فيها، فسورية انتصرت بقوة تدبيرها وإدارتها للنزاع بعد انهيار الميثاق العربي.. فهي وحدها لا تملك أن تكذب على نفسها وشعبها، وهي جريحة حدّ ألا تسمح بأن تشحذ عودة إلى جامعة الدول العربية بشروط إقليمية هزيلة.
الواقعية تؤكد هنا أنّ قمّة لا يمكن أن تحضر فيها ليبيا كممثل حقيقي لكل ليبيا، أو اليمن كممثل حقيقي لكل اليمن، كلبنان جوّعه العرب، كسورية ما زالت تداوي جراحها من الغدر العربي، كعراق صبوا عليه كل أنواع الإرهاب، أو تونس التي لم تستقر على من يمثلها كلّها، أو فلسطين التي حوّلوها إلى متجر سياسي، فيتمخض الجبل بعويل ثوري فيلد حلّ الدولتين.
تبدو المعضلة العربية شديدة التعقيد، وكان على العرب قبل القمّة أن يتفقوا على إطار حقيقي للحلّ، فالظاهر أنّ العرب سيدخلون القمّة بمشاريع عدائية لا يُمكن أن يُتوقّع بعدها حلّ حقيقي.. غياب الثقة، وسياسات التآمر، والعناد على الخطايا السياسية، واللعب على الحبال، وخلط الأوراق، والكيل بمكيالين، واللعب فوق الطاولة وتحتها.. كل هذا لم يعد يجدي، فالقمم العربية إمّا أن تكون مقنعة أو لا تكون، ذلك لأنّ المعضلة العربية تعاني من تورّم مزمن، لا يمكن أن يتوقّع علاجه بقمّة “شفهانية”. ومع ذلك سأقول عن قمة الاستعراب:
“دعوا المارة تمشي مرحا، تداعب القمم على الشّباك، قمّة فوق سطح آيل للسقوط، وسوق يضج بالعويل، وتأتأة السكارى وفحيح السياسات، وثرثرة متسكعة تراود بنات الحيّ بلغة الحرافيش، وأنغام في أسفل السلم الموسيقي للمبدئية، نحن حريصون على أن نحول مأساتنا الإقليمية إلى كوميديا سياسية خالدة. أيها العرب ادخلوا قممكم، لا يحطّمنكم الزّمن والآفات.. لسنا بحاجة كعرب إلى قمم، بل علينا أن نتصالح مع أنفسنا و”نتسافح”، أي ننزل إلى سفح الجبل لنتعلم الصعود الحقيقي للقمّة، ونتسلّق بأيدينا لا بألسنتنا التي اخترقت الآفاق.. ليس مطلوباً من العرب أن يتقمّموا ويتقمقموا، بل المطلوب منهم اليوم أن يصدقوا ولو مرة واحدة، أن يكونوا أحراراً إن هم أرادوا أن يكونوا عربا كما يزعمون.