فشل سياسة التجويع في لبنان.. الترسيم مكسب استراتيجي وطني
إدريس هاني
انتهت سياسة تجويع لبنان، بدخوله نادي البترودولار من بابه الواسع، من يصدّق؟! تلك هي مفارقات الجغرافيا السياسية المتحوّلة، هناك حنق سياسي مصحوب بكيدية مفرطة لدى من راهنوا على حصار وتجويع الشعب اللبناني، فما إن صدمهم قرار الترسيم، وما إن لاحظوا أن المجتمع اللبناني قد حقق مكسباً استراتيجياً من خلال قواه التي أفرزتها دينامية مجتمع يعيش وفق شروط اللاّدولة، حتى أصيبوا بخيبة أمل، هناك من أزعجهم بأن القوى الدولية رضخت لضغوط المكوّن المُقاوم، في الوقت الذي كانوا ينتظرون فيه تفكك المجتمع اللبناني أو الدخول في مصير مجهول من الحرب الأهلية.
ثمن الكيدية هو الذُّهان الذي يصيب من يفهم السياسة على أنّها ثنائية قاتلة: إما وإمّا، ولاسيما في البيداء العربية حيث السياسة هي استمرار للكيد بطريقة أخرى. وطبعا تنتج الكيدية عناوين لا تنتمي إلى علم السياسة وتاريخها، هناك تحذير من مخاطر أن يخضع لبنان لما يسمونه ميليشيا، علما بأن الميليشيا إياها تسمّي نفسها حركة تحرر وطني، وجلبت للدولة اللبنانية مكسباً استراتيجياً، في زمن تراجعت فيه السيادة والاستقلال، وفي شرط عصيب من تاريخ لبنان السياسي والاقتصادي.
يبدو الموقف اللبناني موضوعياً في ظل شروط تحرسها سياسات التدخل، وهناك ما يقتضي التثبت في استعمال مفهوم التدخل، فلقد كان لبنان بيئة خصبة لسائر التدخلات، وكلها تخدم أجندات ومصالح دولتية صمّاء، لا يتحقق معها حتى مقدار الربح المشترك (رابح-رابح)، وهو ما لم تقم به قوى التدخل التقليدي في لبنان، حيث إن أصدقها اعتدالاً لم تكن لترى في لبنان سوى خلفية استراحة ومشروع كازينو للرجعية العربية، هذا بينما دافع لبنان من خلال قواه الاجتماعية عن الوجه الآخر للبنان، لبنان الحرّ. وهنا بدأ النقاش: أي لبنان حرّ؟
لكي نتحدث عن لبنان حرّ بالمعايير التي تفرضها الرجعية العربية التي تجهل المغزى التاريخي والأنطولوجي لمفهوم حركة التحرر الوطني، وجب الحديث عن دولة قادرة على اتخاذ قرارات موضوعية إزاء ترابها الذي يقضم الاحتلال شطراً منه. وفي سياق هيستيريا الاحتلال والهيمنة الإمبريالية، ماذا يعني استقلال بلد يعاني من أزمة تشكيل حكومة؟
يجب احترام مكونات الشعب اللبناني وأخذ رأيها بعين الاعتبار، على أن تكون مكوناً حقيقياً مستقلاً لا يأخذ قراراته من جهات خارجية، وفي لبنان توجد جهات غير معنية بمصير الدولة اللبنانية ولا حتى بإرادة شعب مارس إرادته بصورة تعزز مفهوماً في علم السياسة ابتلعته لعبة الأمم، وهو ما يتعلق بفكرة أن الشعب هو أصل الدّولة، وبأنّ الدولة إذا انهارت لأسباب ما، فإنّ البديل هو الشعب ومكوناته الحيّة.
تحاول بعض القراءات أن تعتبر الانخراط في التقسيم اعترافاً بالاحتلال، في محاولة بلهاء لتصيد موقف يقوض مصداقية حركة التحرر الوطني اللبنانية. هذا يضاف إلى جهل مزمن بمفهومي السلم والحرب، فالتفاوض على الترسيم جرى مع قوى دولية، وهو أشبه ما يكون بالتفاوض حول الأسرى بين طرفين في حالة حرب، فانتزعت المقاومة حقّاً وطنياً، ما كان لينتزع في ظلّ الهيمنة والاحتلال. وأمّا من يستهينون بأداء المقاومة، فهم في هذه الظرفية الصعبة، غير معنيين بتآكل المجتمع اللبناني الذي جوعه من اعتبروا أنفسهم دائما أصدقاءه.
لا تتدخل المقاومة في أنماط عيش اللبنانيين، ولا في اختياراتهم، ولم تكمم أفواههم في هذا التمرين الكيدي. ففي لبنان يوجد من يجهر بالقول ضدها، ويبقى لبنان بلد الحرية، وأمّا المكون الذي يحمل لواء التحرر، فهو عبارة عن نواة صلبة فرضها التموضع الديمغرافي الموضوعي، لكن حول هذه النواة الصلبة توجد مكونات تعكس طيف التنوع اللبناني الذي كان ولا يزال مشتلاً لتعددية حضارية يجمع بينها هابيتوس فينيقي-عربي مركّب، وهو ما يجعل لبنان في خميرته السوسيو – ثقافية مؤهّلاً لكي يكون نموذجاً للتسامح والديمقراطية، وهو في هذا المصير يكشف عن الوجه المتوحش للاحتلال العنصري.
إنّ ضرب لبنان واستهداف نسيجه الاجتماعي، يهدف إلى خلق أزمة اجتماعية وسياسية، وضرب نموذج التعايش، لأنّ احتلالاً عنصرياً يبدو فاقداً للقيمة المضافة التي تبرر وجوده، يبقى لبنان شاهداً على توحّش الكثير من المحاور الرجعية التي سعت طوال سنوات لابتزاز لبنان وصولاً إلى التجويع الممنهج للشعب وتقويض الطبقة الوسطى.
لقد صمد المجتمع اللبناني سياسياً واقتصادياً، وظهرت مكاسبه الرمزية والثقافية والاجتماعية، كمجتمع يستطيع أن يؤمن استقراره وهويته حتى في غياب الدولة وتوحّش الهيمنة. ولا شكّ أنّ هناك محاولات للدخول في مخططات جديدة، للحؤول دون استخراج الغاز، وهو الغاز الذي كانت الدوائر المعنية تعلم بوجوده منذ سنوات خلت، وربما تم الضغط على لبنان ليقبل الترسيم تحت طائلة التفقير الممنهج، لكن الغاز، من شأنه أن يخرج لبنان من الأزمة الاقتصادية وبالتالي السياسية.
كان خصوم لبنان أو بالأحرى خصوم إرادته الحرّة، ينتظرون مزيداً من التّأزيم، لكنهم صُدموا بالقرار، وقد بدا أنهم يسعون للضغط عبر الانفتاح على الحلف النقيض، وهو أمر صعب نظراً للشروط المثقلة التي يفرضها استحقاق التحالف الكلاسيكي، كل هذا، بينما الحلّ قريب لو تخفف المزاج من هلاوس الصورة النمطية المعيقة للسياسة، إنّ لبنان يواجه سيلاً من التدخل، والسؤال الموضوعي لبنانياً: أي تدخل هو أنفع؟ أي تدخل يخدم استقلالية القرار اللبناني؟ أي تدخل يلتقي مع إرادة التحرر الوطني؟ هنا يمكننا الحديث عن دور حركة التحرر اللبنانية في تحقيق المكاسب الاقتصادية الوطنية، وبهذا يضطر خصوم لبنان التحرري إلى تغيير معجمهم اللفظي، حيث لم يعد فعل التحرر خراباً للعمران، ولا طرداً للمستثمر، ولا إزعاجاً لأصدقاء جعلوا من تجويع شعب، سياسة حكيمة وعنوان صداقة.