عصبية عرقية أوروبية
تشرين-عبد المنعم علي عيسى:
مثلت حادثة تفجير جسر القرم في الثامن من هذا الشهر منعطفاً حاداً في المعطى العسكري قد يكون هو الأهم، بعد تفجير خط «السيل الشمالي» الذي سبقه بأيام، والفعل الذي جرى التهديد به منذ بدايات اندلاع الصراع في شهر شباط المنصرم كان منتظراً قياساً بالتصريحات الأوكرانية التي كان أبرزها تصريح لمسؤول أوكراني قال فيه قبل نحو شهرين إن هذا الهدف «يجب تنفيذه عندما تسمح الظروف وقدرات التسلح»، ومن الواضح أن هذا التصريح يشير إلى اتخاذ نظام كييف وضعية الانتظار، والاستعداد، لحين إعطاء واشنطن «الضوء الأخضر» قبيل دخول العملية مرحلة التنفيذ، والمؤكد هو أنه، أي نظام كييف، تلقى ذلك الضوء فكان القرار بتفجير الجسر الذي سبق لديمتري ميدفيدف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، أن قال: إن فِعلاً من ذلك النوع من قبل أوكرانيا سيكون بمنزلة «يوم القيامة» عليها.
عمدت موسكو ما بعد الحدث إلى حال من التروي كان من الواضح أنه لن يطول أمده، فالجسر منشأة مدنية، شأنها في ذلك شأن خط «السيل الشمالي» الذي استهدف قبيل نحو أسبوعين، واللافت كان في ذهاب المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا حدود الربط التام فيما بين الفعلين، الأمر الذي يعني أن القراءة الروسية لكلا الفعلين تقوم على يقين، لا يدركه الخطأ، بأن القائم بالفعل الأول هو عينه الذي قام بالفعل الثاني، وعليه فإن موسكو انتظرت لـ24 ساعة ريثما تكشفت النتائج التي وصلت إليها لجنة التحقيق التي تشكلت بعد ساعات من التفجير بمرسوم صادر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً.
كانت التصريحات الصادرة عن المسؤولين الروس في أعقاب تفجير الجسر توحي بأن الحدث من النوع الذي يستدعي رداً يتناسب مع حجمه، حتى إن اوليغ موروزوف، عضو مجلس الدوما الروسي عن حزب «روسيا الموحدة» كان قد عدّ الحدث «إعلان حرب بلا قواعد» قبيل أن يقول: «يجري تنفيذ حرب إر*ها*بية ضدنا، والهجوم الإر*ها*بي على جسر القرم الذي تم الإعلان عنه منذ فترة طويلة لم يعد مجرد تحدٍّ»، وعليه فقد لاحت تباشير الرد الذي يجب أن يشكل رادعاً بدرجة حاسمة من جهة، وأن يكون كفيلاً بعدم تكرار فعل من هذا النوع من جهة ثانية، وفي تلك الغضون راحت التحليلات والتكهنات تسيل، وتلحظ، مجمل الإشارات الصادرة عن موسكو في محاولتها لتبيان طبيعة وحجم الرد الروسي على الفعل.
وفي صبيحة 10 من الشهر الجاري، أي بعد مرور 48 ساعة على تفجير الجسر، كانت القاذفات الروسية تستهدف كلاً من كييف ولفيف، فيما الصورة التي عمل الغرب على تصديرها كانت تنصب على أن الروس يستهدفون «بنى تحتية» وأهدافاً مدنية، وبغض النظر عن صدقية تلك الصورة من عدمها فإن الحرب هي الحرب، ولها ويلاتها التي غالباً ما تستجر نظائر لها أشد، ثم إن صراعاً عالمياً، كالصراع الدائر في أوكرانيا راهناً، لا بدّ له من أن يستولد أضراراً جسيمة في سياقاته، لكن اللافت هو التقرير الصادر عن البرلمان الأوروبي بُعيد الرد الروسي والذي جاء فيه: «ما يحدث في كييف مقزز، وروسيا ستحاسب»، والسؤال هنا: ألم يكن ما حدث في دمشق وبغداد وطرابلس الغرب وصنعاء مقززاً أيضاً وفق تلك المعايير طبعاً؟، ألم يفضِ العدوان الغربي على تلك العواصم إلى بحار من الدماء لم تنقطع بعد، وإلى تدمير في البنى التحتية من النوع الذي يصح وصفه بجرائم حرب؟، أم إن الدماء التي تجري في عروق الأوروبيين مقدسة بينما دماؤنا تستحق الإراقة كرمى عيون أسواق الغرب التي يجب أن تزدهر وتزدهر، فيما ازدهارها مرتبط طرداً بكمِّ دمائنا، “غير المقدسة”، التي يجب أن تسيل.
قصارى القول: هذه هي أوروبا، وهذه هي أمريكا، وهذه هي عصبتهم التي تنحاز لأهوائهم ومصالحهم التي اعتادها العالم .