بين استدلالين
إدريس هاني:
بين الاستدلال في مجال العلوم الدقيقة والاستدلال في مجال العلوم الإنسانية، فارق كبير. ففي الأوّل لا مجال للانزياح، لأنّ ثمة مصباحاً أحمر يشتعل بقوة شديدة، وصوت إنذار يهتك الجدار الصلب للعقل العلمي.
يقع الانزياح أحياناً لكن لا يستمر، لأنّه لو استمر، ستكون كارثة. في المختبر، قد ينتهي الانزياح بخلطة كيميائية تفجّر المختبر عن بكرة أبيه. العلوم تمتلك أنوية صلبة تحمي مساره، حتى الخطأ في مثل هذه الحالة يستند إلى مغالطة خفية لا يلقي لها العالم بالاً، ولن تدوم.
لكن ماذا عن آلاف الاستدلالات في العلوم الإنسانية التي تمرّ مرور الكرام، لا أحد يمسك بناصيتها، ولا منبّه يلفت الانتباه.
يقع الانزياح الأعظم ولا نجد انفجاراً كما يحدث حين نعبث بمواد كيميائية، إنني أشبّه الانزياحات في مجال العلوم الاجتماعية بالمرض الصامت، لأنّه يتسلل ويكبر من دون أن يشعر به صاحبه. بل قد يصبح معدياً كما هو حال العدوى في الأفكار والمفاهيم الملوّثة.
من ألِف الدّقة في الاستدلال، يستطيع أن يدرك مهازل هذا النمط من التحليل في العلوم الاجتماعية، في هذا التكرار الناتج عن العدوى.
ترى من ينقذ العلوم الاجتماعية من هذا الهُراء؟ أجل، إنّ الذي يشعر بإعطاب الاستدلال الممارس في العلوم الاجتماعية، سوف تتجسم له تلك الانزياحات، فهو يرى في تلك الرطانة والثرثرة انكسارات واحتراقات وانفجارات، كلما استمرت تلك الانزياحات.
فإن تقفز من مقدمة إلى أخرى في مسار الاستدلال، لن يحدث احتراقاً إذا تعلق الأمر بالعلوم الاجتماعية. ستجد دائماً شاهد زور على هذه الكارثة يقول: هي وجهة نظر، ورأي. في مجال الاستدلال العلمي يصعب التسامح مع الأخطاء، لأنّها تنتهي إلى تفجير المكان. ثم تتكرس الخطيئة في العلوم الاجتماعية، ثم تصبح معدية، ثم تكتسب أهمية إضافية عبر التقادم، وسيجعل منها الجيل اللاّحق دوغما، ويستمر الجهل التعلمي الذي يأخذ صورة العلم، وستمنح المُلاوغة سلطة إضافية للخطيئة، ستصبح لغتنا مأوى للمغالطة وتَساوي الأدلة. شيئاً فشيئاً، تندك معايير العلم، ويصبح العلم ثرثرة.
الحلم الكبير الذي راود آباء العلوم الاجتماعية، هي أن يجعلوها صنواً للعلوم الدقيقة، غير أنّ هذا الحلم تلاشى، وأصبح المهيمن على العلوم الاجتماعية الانزياح، ذلك لأنّ المفاهيم المتنازع عليها ها هنا تجعل مهمّة المنطق العاصم لهذه العلوم من الخطأ، صعبة.
إنّنا لسنا في البدايات، بل لقد قطعنا مشواراً طويلاً في هذا الانزياح، وأصبح التحدي القائم اليوم، هو التخفيف من هذا التراكم الأعظم من مغالطات علوم الإنسان. أنت ترى العالم في مختبره أشبه بالحرافيش، غير آبه لنفسه، لأنه منهمك في التأمّل والتجريب، بينما في العلوم الاجتماعية هناك مندوحة تسمح لمحترف علوم الإنسان أن يضع رجلاً على رجل، ويتفنن في ألوان ربطة العنق.. نحن في مرحلة خطيرة اليوم، وعلى حافة الانهيار، لأنّ علوم الإنسان تحوّلت إلى صناعة تقوّض ملكة التفكير، وانتهت إلى رأي ورأي آخر، تحتاج الإنسانية إلى نواة صلبة كي تحقق مشتركها في مجال المعقول.
ما زلت أرى أن علوم الإنسان هي أشرف العلوم، ومن دونها لا جدوى من العلوم الدقيقة نفسها بالنسبة للحضارات، لأنّها مجال لاستثمار منجزات العلوم وتسييسها في اتجاه النفع الاجتماعي. الأفكار الاجتماعية هي الحاكمة.
لكن ما تعانيه علوم الإنسان والمجتمع اليوم، هو غياب الضابطة والغاية، إنها مؤشّر على انحطاط شامل يصيب المعنى في الصميم. حين تقترب حضارة ما من الانهيار، يظهر ذلك على أنساقها الفلسفية والعلمية.
كاتب من المغرب